لعبة الخارج في الضغط على قيس سعيد

تميل حركة النهضة الإسلامية في التعاطي مع الرئيس قيس سعيد إلى أسلوب يقوم على المخاتلة، فهي لا تتظاهر في الشارع بنفسها، وإنما توكل مهمة التظاهر والاحتجاج إلى شخصيات علمانية وأحزاب صغيرة بعضها مقرب منها وبعضها الآخر بعيد عنها كل البعد.
وإذا ظهر قيادي في النهضة ضمن اجتماع لهؤلاء فيكون شخصية ثانوية أو من الوجوه التي أعلنت استقالتها من الحركة. لم يظهر رئيس الحركة راشد الغنوشي، ولا رئيس مجلس الشورى عبدالكريم الهاروني، ولا علي العريض الوجه التاريخي الذي يرجح أن يكون الرئيس القادم للحركة إذا انعقد مؤتمرها ورضي الغنوشي بالانسحاب.
صحيح أن الغنوشي لا يقدر على الظهور في تظاهرة مع أي حزب معارض، لأن لا أحد سيقبل أن يقف إلى جانبه، وكلهم يعتبرونه سبب الأزمة التي عاشتها البلاد.
لكن النهضة من مصلحتها أن تجري تجمعات معارضة دون الغنوشي ودون أي من قياداتها الرسمية، ولديها خطة أبعد من هذا. فهي تعرف أن احتجاجا محدودا ولو ضم بضعة آلاف من المحتجين لن يغير شيئا من المشهد طالما أن قيس سعيد قد حسم أمره بطي صفحة المرحلة الماضية ببرلمانها وحكومتها وأحزابها، وهي تعرف أنه مازال يحوز شعبية كبيرة قياسا بما بقي لها هي من رصيد.
تعتقد النهضة أن حضورها الرمزي في بعض التظاهرات السياسية الاحتجاجية سينقل صورة إلى الخارج بأن المعارضة التي تقف ضد قيس سيعد هي معارضة مدنية علمانية متنوعة وأن النهضة عنصر صغير.
صحيح أن الدول الغربية تريد نظاما ديمقراطيا وتدافع عن وجود مؤسسات منتخبة، لكنها بالمقابل لا تريد ديمقراطية كالتي حكمت من خلالها حركة النهضة في السنوات الأخيرة
تستبطن الحركة حقيقة أن الجهات الغربية، بمن في ذلك من تعتبرهم أصدقاءها، لن تتعاطف معها لذاتها، فهي بالرغم من مساعيها وتقلباتها الفكرية والسياسية وسعيها للظهور بصورة الإسلام المتخفف من إسلاميته القديمة والمنفتح على الآخر لا تزال في نظر الغرب حركة تنتمي إلى الإسلام السياسي ولا أحد يصدقها أو يأمن جانبها حتى وإن جاملها أو استقبل هذا القيادي أو ذاك وجلس إليه وأطلق في حضوره تصريحا يفهم منه تقدير انفتاحها.
خطة النهضة في الوقوف ضد قيس سعيد تقوم على توظيف كل تصريح أو موقف أو حركة من هذا الحزب أو ذاك، وخاصة مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد)، لإظهار أن الشارع السياسي والقوى الاجتماعية ضد قيس سعيد. ولهذا فنوابها الموجودون في الخارج لا يتحركون بمفردهم في الاتصال ببعض الجمعيات والمنظمات، وإنما يتخفون وراء لجنة ممثلة عن البرلمان المجمد فيها نواب من أحزاب أخرى.
كما أن قياديا مثل رفيق عبدالسلام، الذي عمل وزيرا لخارجية الترويكا وظل عنصرا رئيسيا في المكاتب التنفيذية لحركة النهضة خلال السنوات العشر الأخيرة، زيادة على كونه صهرا للغنوشي، يكتفي بنشر تغريدات صغيرة على فيسبوك ولا يتحرك باسم النهضة لمواجهة ما تسميه بالانقلاب.
هذا تأكيد على أن النهضة تشعر بأن الدوائر الغربية قد تجاوزت ورقة الإسلاميين الذين تحمست لهم خلال موجة الربيع العربي، وأن هذه الورقة باتت محروقة، ولا أحد يفكر بإعادة استثمارها ولو من بوابة حكم ديمقراطي تشاركي، فالمصالح الغربية تبحث الآن عن حكومات مستقرة قادرة على إصلاح الاقتصاد وجذب الاستثمارات وخلق فرص العمل لأجل المساهمة في الحد من الهجرة غير المنظمة.
هذه مهمة فشلت فيها حكومات الربيع العربي، خاصة في تونس وليبيا، ولم تعد دول عرفت بمطالبها لاستيعاب الإسلاميين في السلطة متحمسة للأمر، وهي تفتح الأذرع لأي نظام جديد قوي وماسك بالملف الأمني وقادر على ضبط الحدود ووقف موجات الهجرة سواء من تونس أو القادمة من جنوب الصحراء.
صحيح أن الدول الغربية تريد نظاما ديمقراطيا وتدافع عن وجود مؤسسات منتخبة، لكنها بالمقابل لا تريد ديمقراطية كالتي حكمت من خلالها حركة النهضة في السنوات الأخيرة، ديمقراطية الفوضى والصراعات التي فوتت على البلاد فرص الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات كما بددت تحمّس الناس لديمقراطية حقيقية قادرة على إشاعة مناخ من الإيجابية والثقة في الدولة ودعمها في الحرب على الفساد.
مع ملاحظة أن الإعلام الغربي الذي كان دائم الاحتفاء بقصص مظلومية الإسلاميين لم يعد متحمسا في الفترة الأخيرة لنشر تصريحات الغنوشي، وبات يقارب الوضع في تونس من زاوية الاستقرار أكثر من حماسه السابق للديمقراطية وحرية التعبير التي يتقن الإسلاميون توظيفها لكسب التعاطف.
لبعض الدول الغربية مآخذ على قيس سعيد بسبب رغبته في إطالة المرحلة الاستثنائية بهدف تفكيك ما يسميه منظومة الفساد الواسعة وتنقية المؤسسات الحساسة، خاصة القضاء، من الاختراق السياسي ومن نفوذ دوائر الفساد، وتهيئة المناخ لاستعادة ثقة التونسيين في العملية السياسية كلها، وخاصة الأجيال الشبابية، من أجل ضمان مشاركة فعالة لهم في الاستفتاء الهادف إلى تغيير النظام السياسي.
تعتقد النهضة أن حضورها الرمزي في بعض التظاهرات السياسية الاحتجاجية سينقل صورة إلى الخارج بأن المعارضة التي تقف ضد قيس سيعد هي معارضة مدنية علمانية متنوعة وأن النهضة عنصر صغير
وبالتأكيد، فإن تلك المآخذ يمكن الاستجابة لها مع مرور الوقت، مع وضع قيس سعيد لخطته بشأن المرحلة القادمة. وقد يكون سماع المؤسسات الغربية لبعض النواب ولقاؤها بهم جزءًا من الضغوط لدفع الرئيس سعيد إلى حزم أمره ودخول المرحلة الجديدة بشراكة أوسع مع القوى الاجتماعية والاقتصادية. ولكن بالتأكيد، لا أحد من الغربيين يدافع عن عودة منظومة الفوضى والفساد.
وتحاول حركة النهضة أن تلعب في الغموض السائد بين علاقة قيس سعيد بدول غربية ومواقفه الحادة بشأن السيادة الوطنية وفصل المساعدات والدعم الذي تحتاجه تونس من شركاء غربيين عن موضوع التغييرات التي يستعد لإجرائها. وآخر هذه الألعاب تكثيف الحديث عن عودة البرلمان المؤكد “أحب من أحب وكره من كره” كما جاء على لسان الغنوشي، ثم كررها قياديون آخرون بينهم مستشاره السياسي رياض الشعيبي، وكذلك تصريحات لعلي العريض.
من الواضح أن الهدف من خلال جملة هذه التصريحات المبشرة بعودة البرلمان هو الضغط على قيس سعيد لدفعه إلى حل البرلمان دون مسوغ قانوني، في ضوء بطء الإجراءات القضائية، وهو أمر يتجنبه الرئيس سعيد ويبحث عن صيغة له، وهو ما جاء في كلامه منذ أيام حين لوح باللجوء إلى مراسيم خاصة يتيحها له المرسوم 117 الذي أصدره في الثاني والعشرين من سبتمبر الماضي كمدونة لإدارة المرحلة الانتقالية.
وتقول أوساط تونسية إن النهضة تريد من قيس سعيد أن يخطو خطوة غير مدروسة بشأن البرلمان المجمد من أجل أن تتحرك بها سريعا في اتجاه المنظمات الدولية والغربية المعنية بشؤون البرلمانات، وهي تروّج فكرةَ أن الصناديق المالية الدولية وبعض الدول الغربية تضع شرطا لها عودة البرلمان مقابل فتح باب المساعدات والقروض، وأنها لا تسلّم أموالها في غياب مؤسسة منتخبة تصادق على التعهدات التونسية.
وقد بدأ قيس سعيد يستوعب حدود مناورة النهضة في الخارج واستثمارها لورقة الحريات حين قال منذ يومين إن “هناك من يدعو إلى العصيان ومع ذلك هو حر طليق، فكيف يتحدثون عن الحد من الحريات”.
ويحتاج الأمر بالنسبة إلى قيس سعيد ومحيطه إلى الوعي بقيمة الإعلام وتبديد الغموض، من خلال وجود ناطق رسمي دائم يمتلك وضوحا كافيا للرد على الإشاعات والاتهامات، ويكون تحت الطلب للاستجابة لتساؤلات وسائل الإعلام المحلية والأجنبية وتقديم المعلومة، والرد على حجج الخصوم في وقتها.