لست ناقدا، الحمد لله

أتسلّح بالقول المأثور “ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام” لكي أقول “ما نشر بسيف الحياء فهو حرام”. يتوسم أحدهم تشجيعه ودعمه، ويتوسّل أحيانا بإلحاح أقرب إلى تسوّل يكشف فقر الموهبة؛ فالإبداع يغني صاحبه عن استجداء الناقد اللئيم. ولم أشفق على النقاد إلا بعد مروري في حالات نادرة بهذا الدور، ففي عام 1995 تلقيتُ مجموعة قصصية، وتضمن الإهداء انتظار مؤلفها لرأيي. أفضّل إهمال الهدايا المشروطة، ولكنه شدّد على ألا أجامله. وكتبت في “الأهرام المسائي” ما لم يعجبه، فغضب وقاطعني. ثم انصرف عن الكتابة، وأصبح سلفيا، وصالحني من دون إدراج الثقافة عموما في كلامنا.
الآن أشفق على الناقد. ينتظرون إشادته، ويرفضون صدقه. وقبل بدء الإذاعة الرسمية في مصر، مايو 1934، كانت الإذاعات الأهلية تبثّ في نطاق محدود. رأى المخرج صلاح أبوسيف في أحد الأفراح المطربين صالح عبدالحي وعبداللطيف البنا والشيخ محمود صبح الذي أضحك الجمهور بأسلوبه الغنائي القديم، فدافع عن نفسه بسباب المدعوّين الساخرين، ثم أكمل الغناء. وكان الشيخ صبح يلحن ويغني، ويخاطب مستمعيه في المحطات الأهلية “سامعين ياللي ما تفهموش حاجة! سامعين ياللي ما عندكمش ذوق، سامعين الواحد وعشرين مقام اللي عملتهم في جواب الجواب ده؟! دا اسمه جواب الجواب لنغمة الهفتكاه.. ياللي ما بتفهموش هفتكاه”. وهاجمه ناقد، فقطع غناءه في إذاعة أهلية، وقال على الهواء “سامع الطرب يا ناقد يا مجهول؟ سامع يا ابن الكلب؟”، وواصل الغناء، ثم ختم فقرته بتكرار الشتائم.
في “كتاب النميمة” يروي سليمان فياض أنه انتقد رواية “حضرة المحترم” لنجيب محفوظ، في صحيفة “كتب جديدة” التي أصدرها عبده جبير. راهن فياض على وفاء محفوظ بكلامه الدائم عن حق القراء والنقاد في انتقاد أدبه. وفوجئ فياض باستنكار محفوظ “دا نقد؟ أنت قليل الأدب”. ويعلق “في ذلك اليوم حمدت الله أنني لم أصرْ ناقدا”.
وفي سيرته “لما البحر ينعس” يشير رؤوف مسعد إلى أنه كتب ملاحظات على رواية “نجمة أغسطس” لصنع الله إبراهيم، وعلم من صديقهما المشترك كمال القلش أن صنع الله “زعل مما كتبت، تأكدت لي بعد ذلك حساسيته المبالغ فيها من النقد”. وحين صدرت رواية “شرف” صارحه رؤوف بمأخذ فني، “قلت رأيي لصنع الله… لكني أحسست أنه مضجر من نقدي”.
في صيف 2002 قرأ بهاء طاهر مخطوطة روايتي “باب السفينة”، ودعاني إلى بيته، وامتدت الجلسة إلى منتصف ليل رمضاني، وذكر ثلاث ملاحظات وافقته على اثنتين، وسألني “زعلان؟”، فنفيت بالطبع؛ لأنني أقدّر صدقه، ويسرني اهتمامه ورأيه. فقال: “تعرف؟ لما يصارحني أحد بمثل هذه الملاحظات، أزعل جدا!”.