لحظات قاسية من زمن المدينة

باريس تحتفي بالمصور الأميركي دايف هيث الذي جعل من العزلة موضوعة بصريّة.
الأحد 2018/09/30
الطفولة الشقية في الشارع والعزلة في القطار

فقد الفنان الأميركي دايف هيث والديه في سن الرابعة، وتنقل بين عدد من دور الأيتام قبل أن يصل إلى سن الرشد، وعام 1952 حين صار في عمر الـ21 التحق بالجيش وفر إلى كوريا، ليعمل هناك مصوراً، لكن علاقة هيث مع الكاميرا بدأت باكراً، فالشاب الذي علم نفسه التصوير قبل كوريا والالتحاق بالجامعة، وجد في المدينة المعاصرة عمراناً سياسياً واقتصادياً يخلق العزلة، ويحول الفضاء العام إلى مساحة لبناء الحدود، وفصل البشر بعضهم عن بعض، فصوره التي تقتصر على الأبيض والأسود، تولد في المدينة، ذات التأثير المباشر على الأفراد ونظرتهم إلى ذواتهم.

رحل هيث عن عالمنا عام 2016، وتكريماً لذكراه وأثره الفنيّ تقيم صالة LE BAL الفنيّة في العاصمة الفرنسيّة باريس، معرضاً مميزاً لإبراز أهمية أعماله في رصد الثقافة الأميركيّة، إذ وضع القائمون على المعرض ثلاثة أفلام  تصور الحياة اليوميّة في المدن الأميركية في الستينات، بمواجهة واحد من أشهر كتب الصور التي أنتجها هيث، وهي “حوار مع العزلة” الذي صدر للمرة الأولى عام 1965، ليكون المعرض الذي يحمل ذات الاسم، أقرب إلى محاولة لفهم طبيعة التواجد في فضاء المدينة، وأشكال الأداء الرسميّة أمام أعين الغرباء، والتي  نراها في محطات القطار ومواقف الباصات، أو يتبناها أولئك الذين يمارسون أعمالهم “خارجاً” كسعاة البريد والباعة المتجولين.

لاوقت للانتباه
لاوقت للانتباه

تحاول الأفلام الثلاثة أن تصور المدينة خارج إطار السينما التقليدية، والتقاط المعاناة اليوميّة للغرباء، الذين يلتقون يومياً على أرصفتها، ففي شريط البائع الوثائقيّ نشاهد قصة أربعة رجال يعملون في بيع المنتجات مباشرة للمستهلكين، يحمل الواحد منهم حقيبته ويطرق الأبواب طالباً من الغرباء أن يشتروا منه أشهر كتاب على الإطلاق، الكتاب المقدس.

 فالشريط يرصد كيف توظف سياسات الاستهلاك كل ما هو متوافر للربح، والذي نرى أشد أشكاله قسوة في فيلم “بورتريه جيسون” الذي نشاهد فيه اعترافات بائع هوى مثليّ داكن البشرة، ضمن لقطات طويلة، تلتقط صمته أحياناً، وسخريته في أحيان أخرى، وانتقاده للعنصرية والتوتر الذي يسود البلاد، أما في فيلم العين المتوحشة، فنشاهد قصة امرأة في لوس أنجلس تحاول إيجاد معنى لحياتها التي تضيع من يديها، وهي تتأمل مدينة الفرص اللامتناهية والأحلام بالشهرة والمال.

تأتي صور هيث في المقابل بوصفها استمرارا للجهود التي تحويها الأفلام السابقة، إذ تحاول التقاط الأفراد بوصفهم يؤدون مجبرين أدوارهم اليوميّة على خشبة المدينة، التي ستنفيهم خارجها وتهدد حياتهم إن لم يلتزموا بها، وكأن التواجد في الفضاء العام جزء من استمرارهم كأفراد، فصوره محاولة لتلمس معالم الخوف والوحدة التي تفرضها هذه الأدوار العلنيّة، في ظل تسارع إيقاع الحياة، الذي يعجز عن إدراكه الأطفال، أولئك الذين يفضلون زمن اللعب اللااقتصاديّ، لتأتي صورهم باكين، أشبه برد فعل حقيقي يخفيه الكبار عادة، إذ يوقف الأطفال الزمن والتدفق في الشوارع، للبكاء وتحرير صراخهم من قيود الأدب واللياقة العامة.

ما يكسب صور هيث شعريّة عاليّة هو أنه يلتقط أغلبها خلسة، دون أن يدري الفرد أن عدسة الكاميرا موجهة إليه، فتأتي الانفعالات وتفاصيل الأوجه عفوية، لا افتعال فيها أو أداء أمام الكاميرا، وكأنها تتلصص على أشد لحظات العزلة خفاءً

ما يثير الاهتمام أن العلاقات في المساحة العامة قائمة على الصدفة التي قد لا تتكرر، وخصوصاً في فضاءات المدينة الضيقة، كوسائل النقل العموميّة، التي تقضي على المسافات الجسدية بين الأفراد، كما في صورة لسيدة مجهولة، تجلس في القطار، ولا ندري وجهتها، هي أشبه بمن يجلس وحيداً في جزيرة، مع ذلك هي ملاصقة لراكب آخر لكن كل واحد منهم معزول في عالمه الخاص، بعيداً عن الآخر الذي يتحسس كتفه، وكأن فضاء المدينة مساحة إجبارية لا بد للفرد أن يمر بها كي يصل إلى مكانه الآمن، أشبه بمجموعة من الفخاخ البشريّة والماديّة لا بد من تجاوزها للوصول إلى “المنزل”.

يحوي المعرض أكثر من 150 صورة التقطها هيث في مختلف مراحل حياته، كتلك التي تتبعت فيها عدسته الجنود في كوريا خارج أوقات المعركة، موثقة خوفهم وحنينهم للوطن، ولحظات الوحدة التي يمرون بها، هائمين في خيالاتهم عن منازلهم، التي أصبحت مجرد ذكريات وأوهام في بعض الأحيان، يعيدون بناءها في ساعات من التأمل، بل وأحياناً نرى بعضهم نائماً في خندقه، متحرراً من قسوة المكان نحو رفاهية الحلم، يسلم جسده لمساحة أمان ضيقة تاركاً لخيالاته أن تقوده نحو المجهول.

ما يكسب صور هيث شعريّة عاليّة هو أنه يلتقط أغلبها خلسة، دون أن يدري الفرد أن عدسة الكاميرا موجهة إليه، فتأتي الانفعالات وتفاصيل الأوجه عفوية، لا افتعال فيها أو أداء أمام الكاميرا، وكأنها تتلصص على أشد لحظات العزلة خفاءً، تلك التي يراها الآخرون ولا يدركونها، لتأتي عدسته لتفضح الحميميّة الخفية أحياناً، لحظات اللمس التي تبدو عفويّة، لكنها تخفي وراءها توقاً نحو الأمان والدفء.

14