لا مجد لمن قال "لا" ولا عار في قول "نعم"

هناك من النخب أسماء ساهمت في صناعتها "لا" على حساب منجزها في الواقع إبداعيا أو علميا أو حتى اجتماعيا.
الأحد 2021/10/03
"لا" ليست واحدة لكل منها غايتها (لوحة للفنانة بهية شهاب)

“المجد للشيطان معبود الرياح/ مَن قال “لا” في وَجْه مَن قال “نعمْ”/ مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ/ وقال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ”. هكذا استهل الشاعر المصري الراحل أمل دنقل قصيدته كلمات سبارتاكوس الأخيرة، مستحضرا شخصية قائد أولى ثورات العبيد في التاريخ وأكثرها شهرة، الذي تجرأ على روما وقاد ثورة كادت تفتك بها.

حرك دنقل قصيدته بحرف النفي “لا” حتى صارت، بعيدا عن أهميتها الفنية من عدمه، شعارا يمجد الـ”لا” في وجه الخانعين والمطأطئين بـ”نعم”.

“لا” كانت وما زالت شعارا سياسيا وحتى اجتماعيا وثقافيا أيضا، إنها شعار يقحمه حامله في كل قضيّة ليعلن رفضه، تمرده، انشقاقه، صورته الخاص. “لا” مثل العصا التي تقود من أعماهم القهر والظلم والتهميش إلى نور ما، حقيقة ما خاصة. لكن هل فعلا هذه الـ”لا” كانت كذلك؟ وهل فعلا كانت الـ”نعم” دلالة استكانة؟

لنتفق بداية أن هذه الـ”لا” التي مجدها وما زال يمجدها الشعراء والفنانون والسينما والمسرح وحتى المظاهرات، ليست واحدة، إنها لا نهائية تقريبا، هناك لا تنطلق من الخوف والانطواء، وأخرى تتشكل من الشك والارتباك، هناك لا تخرج من الألم وأخرى من العناد أو الدوغمائية، هناك لا تعني الضعف والارتياب وأخرى تعني الجهل والمكابرة وأخرى تؤكد الأنانية والإفراط في حب الذات على حساب الآخرين، هناك حتى لا تعني نعم.

 “اللاءات” التي انطلقت كأصوات متمردة، لم تعد كذلك فقط، بل توسعت مع تعقد حياة الذاوت في واقع لا يتوقف عن السيلان.

بعض من النخب العربية اشتهرت بإشهار “لائها” في وجوه الاستعمار والأنظمة الدكتاتورية، ونالها ما نالها من تنكيل وملاحقة، لكن من الخطأ أن نضع كل هذه النخبة في سلة الـ”لا” المتمردة الرافضة والمقاومة والداعية إلى واقع أفضل لشعوبها.

هناك من النخب أسماء ساهمت في صناعتها الـ”لا” على حساب منجزها في الواقع ثقافيا أو إبداعيا أو علميا أو حتى اجتماعيا وغيره. بعضهم إذا جردته من الـ”لا” لن تجد شيئا.

إن علاقة أكثرهم بـ”لا” مثل علاقة أغلبه بكتابة الشعر، قليلون يكتبونه لذاته أو لذواتهم في رؤية جمالية أو فنية خاصة، كثيرون يكتبونه مرددين طمعا في مكانة ما في علاقة حب أو صوت خاص أو مركز ما وسط الناس، الأسباب كثيرة ومضحكة أحيانا، رغم ما في الشعر من وقار إنساني حملته أصوات المعذبين والهوامش والمنسيين عبر القرون.

الـ”لا” التي قادت سبارتاكوس كانت نبيلة صرخة مدوية عابرة للتاريخ، خلدته قائدا شجاعا إلى الأبد، لكن هل حسنت أوضاع العبيد، الذين نكل بهم بعد الهزيمة؟ التاريخ يجيبنا بأنها لم تفعل. بعيدا عن التقييم الأخلاقي والجمالي والشعري، الشعوب تحتاج ما بعد الـ”لا” دائما.

الـ”لا” ترفع حين بضيق الصدور بالترقيع، إنها للهدم، ومن ثم لابد من بناء ما هدم. إذا لم يعقب الهدم بناء سنجد أنفسنا على خراب لا معمر له إلا الخواء.

سأستشهد بالمشهد التونسي في السنوات القليلة الأخيرة إلى غاية اليوم. هناك أصحاب لاءات كثيرون من زمن الدكتاتورية البوليسية، مرورا بالمسار الثوري الذي شهدته تونس من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 يناير 2011. كان للاءات دور كبير في تجييش الشارع الرافض والمثقل بالقهر والتهميش والظلم الاجتماعي والتضييق والكبت السياسي وانعدام الحرية.. كانت الـ”لا” حاسمة في شعار “خبز وماء وبن علي لا”. إنها الـ”لا” التي جمّعت التونسيين حولها، حتى استنشقوا لأول مرة هواء وطن حر. لكن ماذا حدث من بعد؟

النخب التي شجعت “لا” الشعب، وكان لها لاءاتها، كانت تشبه الشعب في أنها لا تعرف ماذا بعد الـ”لا”، من العادي ألا نعرف، يمكن أن نفكر في مسار ما. أن نبني ما بعد الرفض والتمرد. لكن الاختلاف بين النخب والشعب كان واسعا، نخب منها حمل “لاءه” وتدبر لنفسه بها مكانة ما وظيفة أو عملا سياسيا أو مدنيا ومردودا ماديا ما، أما الشعب فظلت لاؤه تذوي وحيدة لا تعرف ماذا بعدها، فيما الثقل يكبر حتى تراجعت “لا” كل واحد إلى حلقه في وقفة تأمل.

اشتهر أحد نخب اليسار التونسي الجاثم على حزبه قائدا منذ ثلاثين عاما بقوله “لا” لأي شيء وأي قضية، حتى صار محل تندّر وصارت معه الـ”لا” التي قادت شعوبا إلى حريتها ومستقبلها، مجرد أداة عمل سهلة.

بالعودة إلى السؤال الأول حول “نعم” إن كانت دلالة استكانة، فقد أدى تمجيد الـ”لا” المفرط إلى تبخيس الـ”نعم” وكأنها لا تعني إلا الخنوع، بينما هي في أحد وجوهها ما يؤسس للتوافقية، ولا يمكن أن تقوم دولة ما أو جماعة أو غيره من دون توافق، أي نعم التوافقية المفرطة نوع من المرض النفسي يمثل شخصيات منقادة وبلا شخصية ويمكن علاجه. لكن التوافقية ضرورة.

تونس كحال الوطن العربي ككل، نحتاج اليوم إلى كشف اللاءات المزيفة والهدّامة، نحتاج إلى ما “لا” مثل تلك التي أرستها الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي والتي أسست لدولة ما بعد الاستقلال، تونس الحديثة. نحتاج إلى إرساء توازن بين الـ”لا” والـ”نعم”، فليس كل رفض فضيلة ولا كل موافقة استلابا، التوازن هو ما يؤسس لشعب مختلف الأفكار والتصورات والرؤى ولكنه متوافق حول الوطن وقيم حقوق الإنسان وعلوية الثقافة والقانون والمواطنة وضرورة الديمقراطية وأهمية التجديد والتفكير الدائم في المستقبل والأجيال السابقة والقادمة.

10