لا إصلاحات في تونس خارج مسار صندوق النقد

لا تحتاج تونس الآن إلى الكثير من الشعارات، فقد شبعت بها إلى حد التخمة خلال السنوات العشر الأخيرة. ما تحتاجه اليوم هو تنفيذ الإصلاحات الضرورية بشكل عاجل حتى لو كانت صادمة للشارع الذي لم يعد يرضيه شيء، وهو ما بدأ به الرئيس قيس سعيد من خلال قانون المالية الجديد الذي هو لبنة أولى في مسار الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد لمساعدة تونس على الخروج من أزمتها.
تأخرت تونس عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية في السنوات الماضية بسبب عدم مسؤولية الحكومات المختلفة التي كانت تظهر في اجتماعات ممثليها مع المؤسسات المالية الدولية رغبة قوية في الإصلاح، لكنها لا تنفذ شيئا بسبب الحسابات السياسية، فلا أحد يريد أن يظهر في صورة من يواجه أوهام الشارع بأن الدولة قادرة على أن توفر له كل شيء متى أراد لو نزل على زر علاءالدين “شبيك لبيك أموال تونس بين إيديك”.
ورغم التحذيرات التي صدرت عن هيئات الترقيم السيادي والخبراء والاقتصاديين وتقارير اللجان الحكومية المتخصصة التي تقول إن البلاد مقبلة على أزمة مالية حادة وأن اقتصادها يسير إلى الانهيار، فإن الحكومات السابقة كانت تؤجل فتح الملفات الضرورية وعلى رأسها موضوع التوظيف في القطاع العمومي الذي ارتفع مرات ومرات بعد 2010، واعتمد على الترضيات الحزبية والشخصية وعلى منطق الاستثمار السياسي للدولة لخدمة الأحزاب والوجوه السياسية. وكان بابا للتمكين بالنسبة إلى حركة النهضة الإسلامية خاصة بعد أن وجدت أن الإدارة لم تكن في صفها، فسعت لخلق إدارة موازية عبر سياسة توظيف المقربين والمتعاطفين والأشخاص الذين يسهل التحكم بهم.
ومنذ 2012 تولت الحكومات المختلفة إغراق المؤسسات الحكومية بموظفين جدد تحت عناوين فضفاضة منها تشغيل جرحى الثورة، وقد شهدت هذه العملية تجاوزات كثيرة حيث تدخلت الوساطة والمحسوبية لتمنح شهادات تشغيل للمئات ممن لا صلة لهم باحتجاجات 2010. ثم لاحقا تم إغراق آخر، من خلال توظيف الآلاف من الإسلاميين تحت عنوان العفو التشريعي العام، وآخرين من اليسار والقوميين بعنوان “المفروزين أمنيا”. وتقول شهادات مختلفة إنه تم توظيف كثيرين ممن لا يستجيبون للشروط المطلوبة.
لم يعد من الممكن للدولة أن تتحمل استراتيجية إغراق المؤسسات بالموظفين واللجوء إلى زيادات مستمرة في الأجور والعلاوات لاعتبارات سياسية أو نقابية
كما تم توظيف آلاف آخرين خاصة في وزارتي الداخلية والتربية اللتين تحوزان على نصف عدد الموظفين في الوزارات الذين يبلغون أكثر من 250 ألف موظف. وباتت تسوية أوضاع عمال الحظائر وهم بالآلاف ورقة ضاغطة على الحكومات خاصة مع تمسك الاتحاد العام التونسي للشغل باستثمار هذه الورقة في تدعيم حضوره السياسي.
وتسبب تضخم عدد موظفي القطاع الحكومي في إثقال موازنة البلاد بكتلة أجور اعتبرها صندوق النقد الدولي من بين الأضخم في العالم، حيث قفزت كتلة الأجور من 6785 مليون دينار سنة 2010 إلى 20345 مليون دينار في 2021.
وتعتقد أوساط سياسية تونسية أن الفرصة مواتية الآن للخروج من هذا النفق من خلال شراكة واسعة تضم أول من تضم اتحاد الشغل، الذي عليه أن يتخلى عن تصلبه بعد أن بات يصب في صالح النهضة، التي فتحت الباب للتشغيل في القطاع العام كجزء من التمكين السياسي وليس لأن الدولة التونسية بحاجة إلى المزيد من الموظفين.
وترى هذه الأوساط أن التعاطي مع الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي بات أمرا ضروريا، وهو ما عبر عنه الرئيس سعيد حين الحديث عن قانون المالية الجديد بقوله ”أمضيت على قانون المالية رغم ما تضمّنه من اختيارات غير مقنعة ولا تسمح بتحقيق مطالب الشعب في العدالة الجبائية”.
لم يعد من الممكن للدولة أن تتحمل استراتيجية إغراق المؤسسات بالموظفين واللجوء إلى زيادات مستمرة في الأجور والعلاوات لاعتبارات سياسية أو نقابية، وهي تعرف أن نتائج هذا الخيار كارثية على الاقتصاد وعلى أوضاع الناس بمن في ذلك الموظفون الذين يحصلون على زيادات تتسبب في ارتفاع جنوني للأسعار وتساهم في ارتفاع التضخم.
ولا شك في أن حلقة الوصل الحقيقية في الطريق إلى الحل هي اتحاد الشغل إذا تخلى بعض قيادييه عن أحلامهم الأيديولوجية القديمة ونظروا بواقعية إلى دور النقابة كطرف اجتماعي مفاوض من أجل تحسين أوضاع العمال وشروط عيشهم، وليس تحويل الاتحاد إلى واجهة لتحقيق أجندات سياسية لبعض الأحزاب الصغيرة التي تحتمي به.
تعتقد أوساط سياسية تونسية أن الفرصة مواتية الآن للخروج من هذا النفق من خلال شراكة واسعة تضم أول من تضم اتحاد الشغل، الذي عليه أن يتخلى عن تصلبه بعد أن بات يصب في صالح النهضة
وخلال الأسابيع الماضية كان واضحا أن الرئيس سعيد لم يخضع لأي ضغوط من جانب بعض القيادات النقابية التي سعت للعب دور الوصي على الانتقال السياسي الجديد وعرضت توفير خارطة طريق له يسير على هداها. لكن ذلك لا يمنع الحكومة من أن تفتح الباب واسعا أمام التعاون مع الاتحاد، وهو ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي نظمه عدد من الوزراء يوم الثلاثاء لتقديم تفاصيل قانون المالية الجديد.
وقال وزير التشغيل والتكوين المهني، والناطق الرسمي باسم الحكومة، نصرالدين النصيبي إن “الحكومة عملت على القطع مع علاقة التصادم مع اتحاد الشغل، واعتماد مسار عمل تشاركي، من خلال لجان خاصة، لاسيما وأن الاتحاد له دراية كبيرة بالملفات وبالميدان”.
وأضاف إنه “في صورة التفاهم مع الاتحاد العام التونسي للشغل، لا أحد يستطيع إنكار أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ستكون أسهل”، بالإضافة إلى ضمان نجاح الإصلاحات “في حال تبنيها من المنظمة الشغيلة والمنظمات الاجتماعية”.
لكن وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي لم يخف وجود “أطراف داخل الاتحاد وخارجه حاولت زرع الفتنة بين الاتحاد والحكومة”، معتبرا أن “الاتحاد شريك أساسي في بناء الدولة”.
ربما قرأ الاتحاد الوضع السياسي الحالي على أنه موات للضغط من أجل استعادة دوره السابق، أو يريد أن يلفت نظر سعيّد إلى أن المنظمة النقابية الأكثر تمثيلا في البلاد لا تجلس إلى المفاوضات من موقف ضعف أو تحت الضغط والتخويف، لكن الاستمرار في الوقوف على الربوة سيفوت على المنظمة المساهمة في الإصلاحات الضرورية التي تحتاجها تونس، والجميع يتحمل المسؤولية في ما وصلت إليه بسبب المبالغة في المطالب والاشتراطات والتشجيع على الإضرابات والمساهمة بشكل أو بآخر في توسيع واقع السلبية في الإدارة التونسية والعزوف عن العمل مقابل التمسك بزيادة الرواتب والمطالبة التي لا تتوقف بمكاسب جديدة استغلالا لوضع الدولة الضعيفة والمرتبكة.
سيكون على الاتحاد أن يختار بين مسار الإصلاحات من جهة أو الدفاع عن مؤسسات حكومية فاشلة ويغلب عليها الفساد والمحسوبية وتمثل عبئا على الدولة من جهة أخرى، وأن يلعب دور عراب الثورة المضادة ويكون في مركب واحد مع حركة النهضة بالرغم من أنه يتبرأ منها في تصريحات ويتهمها بأنها سبب الأزمة خلال السنوات العشر الأخيرة.