"لامع بلا ألوان" مأساة فنان يتذكر الماضي وينتظر المجهول

مسرحية تخرج عن البنى الكلاسيكية وتدخل مناطق شائكة.
الاثنين 2022/03/21
ما الذي يطلبه الناس من الفنان

يحاول الكثير من المسرحيين العرب اليوم الخروج عن البنى الدرامية المعهودة وتجريب أنماط مسرحية مختلفة، ولمَ لا الدمج بينها لتحقيق لعبة جمالية وفكرية ما، وهو ما يمثل نوعا من المغامرة المطلوبة ولكنها غير مضمونة النتائج والمآلات. وتعيدنا مسرحية “لامع بلا ألوان” إلى جو المغامرة تلك، مغامرة تفتح باب الجدل وتقرأ من جوانب عديدة ومتناقضة أيضا.

ضمن فعاليات الدورة الحادية والثلاثين من أيام الشارقة المسرحية قدم أخيرا على خشبة معهد الشارقة للفنون المسرحية عرض “لامع بلا ألوان” إخراج إبراهيم سالم ونص سامي إبراهيم بلال ومن إنتاج فرقة المسرح الحديث بالشارقة.

ويأتي هذا العمل ضمن المسابقة الرسمية للأيام، وقد لقي في حلقة النقاش التي تلته ردود فعل متباينة لكنها أجمعت في المجمل على أهميته الفكرية والجمالية ورصانة طرحه خاصة في ما يتعلق بالنص.

بطل وحيد

◙ الشخصية الرئيسية تدور حولها بقية الشخصيات

“لامع بلا ألوان” هي مأساة فنان وأكاديمي متقاعد في خريف العمر، إذ يعيش لامع كل أشكال العبث في انتظار الهاتف الذي سيرن، هاتف لا ندري مِن مَن، لكننا ننتظر معه على كرسيه هذا الاتصال، وكأننا أمام استعادة مختلفة للمسرحية العبثية لصامويل بيكيت “في انتظار غودو”.

ورغم اعتبار أن هذا العمل من مسرح العبث فإنني أرى أنه ليس كذلك، إذ انطلق من الواقع ولم يحاول أن يؤسس لعمل عبثي، بل تركيب عناصر

مختلفة من التجريب الإخراجي إلى التجريد في مستوى التعامل مع عناصر العرض السينوغرافية والشخصيات التي بلا أسماء والحالات، وصولا إلى نوع من التكامل بين مختلف هذه الروافد ليترسخ العمل كبحث جدلي ووجودي عميق تقوده جمالية الصورة.

مع لامع الذي لا يبرح كرسيه مطلقا، ولا يكاد ينام، وخادمه الذي يعتني بالهاتف ليلا نهارا في انتظار الاتصال، نغادر المنزل إلى مكان عمله السابق، حيث زملاؤه الذين يلوكون سيرته بسوء، وإلى مقر صحيفة حيث كان أحد الصحافيين الذين ساعدهم لامع سابقا، لكنه يتنكر له، ولا يكتب عنه سوى خبر صغير.

يجد لامع نفسه بين زوجته التي ذبل حبهما وأصدقائه الذين تخلوا عنه وابنه الذي يتصل به كل مرة لابتزازه ونيل بعض المال منه، ويدخل في حالة تشبه المونولوغ، تكشف عن واقع الفنان أولا والإنسان ثانيا حين لا تعود ماكنة العلاقات والعمل والمجتمع بحاجة إليه، تتركه وحيدا مسجى على كرسي، ولا تلتفت إليه ولا تهتم لأمر ولا تقدر له المسيرة ولا الإنجاز.

بذكاء يطرح العرض واقع الفنان الإنسان، قبل أن يكون ذاك المبدع الذي نطالبه في كل مرة بالمزيد، وما إن يتوقف أو يتعب حتى تمر عليه الرحى، رحى التنكر والنسيان والإنكار والتهميش.

الجمالية والفكرة

◙ مأساة الفنان هي مأساة الإنسان في النهاية  لكنها بكثافة أكبر،  هذا ما نخرج به من عرض تكاملت عناصره
مأساة الفنان هي مأساة الإنسان في النهاية  لكنها بكثافة أكبر،  هذا ما نخرج به من عرض تكاملت عناصره

ولكن يبقى أن نشير إلى أن الشخصية الرئيسية لامع تدور حولها بقية الشخصيات التي لا هدف لها في ذاتها، بل تأتي مكملة لمأساة الشخصية الرئيسية وملامحها وأفكارها ومآلاتها. وهو ربما خيار في كتابة النص استمر عليه المخرج، في تسليط للضوء على بطل العرض دون سواه.

أتوقف عند جمالية السينوغرافيا التي قدمت الكثير للعرض، بداية من الخشبة المتحركة التي توسطت الخشبة الأصلية، والكرسي الذي حتى وإن تحول مكانه بقيت صورته انعكاسا ضوئيا، والكادرات أو اللوحات التي تتوسطها مرة دمية ومرة قارعو طبول ومرة رجل برأس حمار.

تكاملت كل هذه العناصر لتخلق حركية في العرض الذي لم يعرف التوتر الدرامي المعهود ولا البنية الكلاسيكية للخرافة والتصعيد الدرامي، بل كان

نسقيا، لا يتحرك فيه سوى خيط الهاتف الذي أخذ يطول في كل مرة إلى أن قيد الفنان إلى الأبد على كرسيه، وهو مشهد متقن في نهاية العرض، إذ تحول لامع إلى مجرد صورة وهو مقيد بخيط على كرسيه أو منفاه الضيق ذاك.

الإضاءة والعناصر السينوغرافية وحتى الموسيقى، على قلتها، كلها خدمت العرض بشكل جيد، ونقلتنا بنوع من التجريد إلى عوالم النفس المظلمة، فيما يشبه كما أسلفنا المونولوغ.

◙ تكاملت السينوغرافيا لتخلق حركية في العرض الذي لم يعرف التوتر الدرامي المعهود ولا البنية الكلاسيكية للخرافة

لا حالات صراع في العرض، بل هي حالات بين بين في كل نقلة، بين التذكر والانتظار المجهول، بين التحقق والعدم لشخصية ذابت في ركنها، بين العائلة والوحدة، بين الزيف والحقيقة، لم يرس بنا العرض على أرضيّة ثابتة، بل كرس تلك الحالة التي أسميها على رأي امرئ القيس “مكر مفر مقبل مدبر معا”، كل تلك التناقضات تحدث معا، وتنقل إلينا التذبذب والاضطراب الذي يحاصر الشخصية.

ما الذي يطلبه الناس من الفنان؟ أن ينتج لهم، أن يساعدهم في مآسيهم بما يقدمه، أن يقدم لهم الفكرة والجمال، أن يحكي بألسنتهم ويفتح أعينهم وقلوبهم وعقولهم، أن يسافر بهم في الخيال والحقيقة، كلها مطالب لا تتوقف، لكن في المقابل ما الذي يطلبه الفنان من الناس، غير الاعتراف.

الاعتراف هذا الذي لا يثبت، حتى وإن تحقق لمبدع ما عبر تجربته الخاصة، فما إن يغيب حتى يُغيَّبَ، ويرمى به إلى النسيان.

مأساة الفنان هي مأساة الإنسان في النهاية لكنها بكثافة أكبر، هذا ما يمكننا الخروج به من عرض تكاملت فيه شتى العناصر.

لكنت بقي أن نشير إلى أن النص تفوق ربما على لعبة الإخراج، ليس لقصور في هذا الأخير، وإنما لطبيعة العمل الذي ينحو منحى التجريب والتجريد، والعبث والخروج عن السياقات والبنى الدرامية المعهودة.

13