لؤي كيالي فنان ملتحم بإحساسه وموغل في الصمت

رحل الفنان السوري الكبير لؤي كيالي عن عالمنا منذ عقود، لكنه ترك بصمته الخاصة في الفن التشكيلي السوري والعربي، بصمة تبوح بخصوصيات أسلوبه الفني وتحكي صمته الكبير الذي جعله دائم الارتباط ببيئته، ينذر ريشته وألوانه لتصور معاناة البسطاء منها وطرائقهم في العيش والحب.
رغم حياته القصيرة إلا أنه أشعل ثورة في رحاب الفن التشكيلي السوري، نعم ثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ومعان، فكان عالما مليئا بالحياة واللون، ساحرا في خلق اللوحة، متمردا على بلادة الشارع التشكيلي وعلى صالات عرضه، متدفقا بصخبه الداخلي وبصمته الخارجي نحو المساحات البيضاء يمدها بأنفاسه المجبولة بألوانه وهمومها الإنسانية.
هو المقبل على الحقيقة بروح الإنسان الفنان، باحثا عن بقاياها، عن تفاصيلها قبل أن تنزاح تماما عن أصداء اللحن المألوف، وتنزلق إلى كل ما هو ممجوج وممل.
أتحدث هنا عن لؤي كيالي (1934 - 1978) الفنان الملتحم بالإحساس، المعلن بكامل صراحته، الشفاف في شهيقه وزفيره، لا تغيب الانفعالات عن عوالمه، فبقدر ما يكون هادئا في حضوره وتأملاته، بقدر ما يكون الغليان عاليا في رفضه واحتفاءاته، في رؤيته ومساراتها. فهو لا يحاكي المتخيل بل يضع لمساته على التشخيص والفضاء الإنساني بتداعيات لونية بها يخلق توازنات بين الفعل وصداه، بين الحركة التي تقتنص الضوء وبين ارتعاشات أمواجها.
يبث الفنان كيالي رؤياه على ملامح أشكاله التي يسيطر عليها في أغلب اشتعالاتها، يبث رؤيا في زوايا حواسه، حتى يلد المشهد بكل علاماته، يوغل منذ البدء في الصمت وألمه، يبصر الخراب ورائحة الحريق، يفضح بهدوء ودون أي استغاثة تلك التصدعات التي تصيب الإنسان وحياته، يشير إلى ذلك الهدم في الروح وما يصدر منها من نواح يحتضن الألم الكبير، وأرتال من البسطاء في سبيل كسرة خبز، وجرعة هواء.
والفنان في سبيل نظام إحساساته بالإنسان وإثراءاته يخلق ثيماته بماهية الحياة وفعلها، ويزيد المثيرات في تنشيطها وتنشيط ما فيها من شظايا الانهزامات وإن بمستويات مختلفة، تاركا الإشارات ومتغيراتها وضمن مخطط معرفي أن يزيد من احتماليات إحداث الملاءمة في اختياراته وعملياتها، فيخفض من رؤية المدى، ويصعد في صوت القلق والانتماء وإن ضمن الإطار العام لدائرته.
لم يكن الفن بالنسبة إلى كيالي غاية في ذاته، بل هدفا لفهم الحقيقة المرتبطة بدرجة كبيرة بفكرة كشف الجمال وتطهيره مع رفع معاييره ببساطة وتوازن، ولهذا بدأ بتشييد عمارته بخصائص بصرية وحسية تحمل الكثير من فراسته القائمة على التبسيط في تفصيلاته الجمالية مستفيدا من معايير اجتماعية خاصة مرتبطة بالعمليات السيكولوجية لديه ومن فلسفته ذات الصِّلة الخاصة بنشاطه الإبداعي في ضوء مناحيه المعرفية كلها.
هو يعمل في الوقت نفسه وعلى نحو متزامن مع تعزيز مقولاته وإعادة اكتشافها في المعنى الانفعالي للون محاولاً فكها إلى مكوناتها المسؤولة عنها، والمفسرة لها مع الفهم الصحيح لتداخلاتها المرتبطة بعملياتها الخاصة متكئا على أشياء موصوفة بالطريقة نفسها التي يستجيب لها حس الفنان ومحركاته الأساسية فيهتم بموضوع التساؤل والفضول، أو بالسلوك الاستكشافي بشكل عام. ويزداد الأمر أكثر ظهورا حين يكون مصحوبا بانفعالات حزينة.
هنا تكون الأصوات هادئة لكن متقطعة وهذا ما يجعل الفنان يتقبل المفاهيم التي تثير القلق والتوتر، والتي تجعله يتقبل السطوح أيضا مهما كان اللون المنفعل عليها، ومهما كانت الوسائل الداخلة في نقل انفعالاتها، وإذا كانت السطوح بيضاء، وأصابعه بيضاء، وقلبه أبيض فكيف به أن يلوث كل هذا البياض، فإذا نجح في السطوح إلا أنه لم ينجح في الأصابع والقلب بل دفع حياته من أجل ألا يلوثها بالركض في عاصفة الغبار.
في عام 2019 احتفى محرك البحث غوغل بذكرى ميلاده الخامسة والثمانين، كتقليد جميل منه بالاحتفاء والتذكير بالقامات الإبداعية العالية في شتى نواحيها، وقال عنه “فيما كان يمكن أن يكون عيد ميلاده الخامس والثمانين، نتذكر لؤي كيالي كفنان ذي حس عال كان يسعى لأن يرسم تماما ما يراه ويشعر به، وله تأثير كبير على مستقبل أجيال عديدة من فناني سوريا”.
هذا الاحتفاء بحد ذاته هو تقدير للفنان الراحل ولتجربته، وتذكير لنا نحن أبناء التراب ذاته بألا نكون جاحدين بحق من يمثلنا في هذه الأرض، بحق قاماتنا التي سنفتخر بها والتاريخ معنا إن لم يكونوا هم تاريخنا، هذه اللفتة العذبة من غوغل هي وخزة لذاكرتنا بألا ندفن من هم أحياء فيها، هي وخزة لقلوبنا بألا نحرمها من النبض والعزف لرسلنا في هذه الأرض.
كل الأوصاف، وكل الألقاب التي قيلت عنه، منها: فنان الحزن النبيل، رسّام الألم الصامت، مبدع الجمال الحزين الهادئ.. تلخص ما في جعبة لؤي كيالي من آمال مقتولة، وبأنه كان سجين حزن كتب عليه أن يقضيه مؤبدا، هذا السجن/الحزن هو قصته التي لم تنته إلى الآن، فما زلنا نعيشها ونسردها لذواتنا ولكل من يمر بنا علها تتحدث عنه وعنا وعن اللون الذي غرقنا فيه.
جولة سريعة بين أعماله سترينا إلى أي مدى كان مع البسطاء وكيف يحلهم ضيوفا على فضاءاته، فمن باعة متجولين أبرزهم بائع الكعك، وبائع اليانصيب، وبائع البوظة، وبائع الجوارب، إلى ماسحي الأحذية، إلى الخياطة، والأم، والخبّازة، وغرفة الغسيل، مرورا بصياد السمك، وعجوز جالس، والصبي النائم. جميعها مؤشرات بأنهم كانوا شغله الشاغل، وبأن المسحوقين في الحياة يستحقون الحياة وهذا ما فعله كيالي حين جرهم إلى مساحاته نافخاً فيهم الروح، آخذاً بهم في منحى ينبغي عليهم تأسيس وقائعهم الخاصة.
هذا الاهتمام الزائد بل الفائض الذي يظهره كيالي نحو البسطاء نابع من انتمائه، ومن حبه الكبير لهم، ولمناخهم الاجتماعي المظلوم في كل شيء، ولهذا لا يمكن لكيالي إلا أن يكون في صفهم، يلتقط أوجاعهم وآلامهم وفقرهم وبساطتهم، يلتقط كل ذلك بحساسيته الخاصة ويكشف كل ما عليها وما وراءها.
ومن أجل فهم العلاقة بينه وبين أسلوبه، أقصد بين أسلوبه الفني وأسلوبه الشخصي، لا بد من إنعاش عمليات التذوق الفني مع ملاحظة العديد من أنظمته الجمالية من خلال رؤيته الحسية البصرية العادية التي سينجم عنها حتما تميّز في عمله الفني وفي مراحلها المختلفة، والتي تحمل خصائصه الإيكولوجية أو البيئية التي تقوم في جوهرها على أساس الواقع ومثيراته المرتفعة منها والمنخفضة.
بدأ كيالي الرسم وهو في الحادية عشرة من عمره، ونظم أول معرض له وهو لم يتجاوز الثمانية عشرة، كان ذلك في عام 1952 في مدرسة التجهيز في حلب، تابع دراسته الفنية في روما بإيطاليا حتى تخرج من أكاديميتها للفنون الجميلة في عام 1961. عاد بعدها إلى دمشق كأستاذ للفنون الجميلة في جامعتها إلى جانب فاتح المدرس الذي مثل معه سوريا في معرض بينالي في البندقية في إيطاليا عام 1960.
بعد هزيمة يونيو 1967، أقام معرضه السابع في المركز الثقافي في دمشق وكان قد رسم لوحة بعنوان “ثم ماذا” والتي كانت سببا في ولادة ما يقارب ثلاثين لوحة تدور عن المواطن في مسيرة التحرر، ثم انتقل بعدها بهذا المعرض ليطوف في العديد من المحافظات السورية، الأمر الذي أثار سخط بعض الفنانين وبعض الكتاب، فأصيب على إثر ذلك باكتئاب شديد وتوقف عن الرسم ومزق العديد من لوحاته.
عاد بعدها إلى حلب، ورغم عودته إلى الرسم في ما بعد إلا أن حالته النفسية السيئة لم تتركه حتى وفاته في عام 1978 إثر حادث حريق قيل الكثير عنه، وأكثر الآراء تتأرجح بين الانتحار عقب حالة الكآبة الشديدة التي لم تتركه، وبين احتراقه بلفافة تبغ جاءت على سريره، هذه النهاية المأساوية لفنان كلؤي كيالي تجعلنا نبحث فيها بعمق أكثر علنا نصل إلى الحقائق التي لم تقل حينها، أتمنى أن يساعدنا الزمن في إنجاز ذلك.