كينيا تشهر سلاح التعليم لتجفيف منابع التشدد بشرق أفريقيا

كينيا أمام تحدي استبدال الخطاب المتطرف حول الشريعة والجهاد بآخر وسطي معتدل ومتسامح.
الأربعاء 2019/09/04
المقاربات العسكرية لم تعد كافية لقطع جذور التطرف

تمثل الكثير من الدول الأفريقية بيئة خصبة لإمتداد الإرهاب. وعزز ذلك بعض التحركات المحلية والإقليمية والدولية لحصار المسألة من المنظور الفكري. وفي هذا الصدد تقدم كينيا تجربة جديدة تستحق الوقوف عندها في مسألة إصلاح المنظومة التعليمية الدينية في المدن ذات الأغلبية المسلمة في البلاد وذلك عبر تشجيع الكتاتيب والمدارس الإسلامية على تبني منهج وسطي متسامح للأجيال الناشئة.

مومباسا (كينيا) – لا تختلف منطقة الشرق الأفريقي المطلة على المحيط الهندي بما تحمله من صراعات عن الكثير من المناطق والبؤر الملتهبة في الشرق الأوسط وآسيا، حيث تعاني كذلك من خطورة توجهات وممارسات الجهاديين.

بدت كينيا عازمة على المواجهة المباشرة مع تمركز مقاتلي حركة الشباب الإرهابية على حدودها مع الصومال. وهي مسألة عانت منها دول عدة. وكان الاستهداف المستمر لكينيا، وآخره في فبراير الماضي ومقتل مواطنين كينيين في مدينة كسمايو الحدودية، من العلامات التي دقت ناقوس الخطر.

لم تعد المواجهة العسكرية والإجراءات الأمنية المكثفة كافية في ظل تمدد التطرف إلى شمال كينيا، ومحاولاته الدؤوبة لانتقاله إلى مناطق ساحلية في كينيا، تسكنها أغلبية مسلمة. وعززت هذه المسألة ضرورة المواجهة الفكرية عبر خطاب منفتح ومتسامح.

ومن بين إحدى الأدوات الأساسية الآن لمحاربة التطرف، التوسع في انتشار المدارس الإسلامية في مدن كينية مختلفة، بدعم من الحكومة المحلية وبعض رجال الأعمال لإشاعة منهج أكثر تسامحا وفهما لحقيقة الدين الإسلامي وعلاقته الوثيقة بالتعايش مع الآخر.

ورغم أن كينيا دولة ذات أغلبية مسيحية إلا أن أغلب المسلمين، الذين تبلغ نسبتهم نحو 30 بالمئة من السكان البالغ عددهم 50 مليون نسمة، يعيشون بالقرب من الحدود الصومالية، وبامتداد خط الساحل المطل على المحيط الهندي.

وجاء اختلاط الكينيين مع الصوماليين ليفاقم المشكلة، وسمحت الأبعاد الجغرافية بزحف الآلاف من أبناء الصومال، بسبب الصراع والاقتتال الداخلي. بدا التشدد مصاحبا للنازحين، وظهرت علامته مع انضمام بعض الكينيين إلى حركة الشباب الصومالية المتشددة، ومشاركتهم في عمليات مكثفة داخل الأراضي الصومالية والكينية.

هناك نحو مليون صومالي يعيشون في كينيا، بين نازحين ومقيمين شرعيين ومتسللين، اختلطوا سياسيا واجتماعيا وثقافيا بالمجتمع المسلم المحلي، ما أنتج أنماطا غير سوية ظهرت معالمها في تصرفات تنم عن تشدد بالغ.

أولوية التعليم

جلس محمد علي المندري، صاحب مدرسة إسلامية لتعليم الصغار الفقه والمعاملات الإسلامية واللغة العربية في مومباسا (شرق نيروبي)، على مقعد خشبي صغير أمام ساحة مدرسته بجلبابه الأبيض الفضفاض وعمامته الشعبية الملونة المنتشرة في الساحل الشرقي.

وسرد لـ”العرب”، خلال زيارة ميدانية لعدد من الكتاتيب الدينية المنجزة حديثا في المنطقة، ما تعيشه كينيا من عملية إصلاحية قائلا بصوت مرتفع للتغطية على أصوات التلاميذ اللاهثين خلف كرة ممزقة “إن غياب الدور الدعوي المنفتح في السنوات العشر الأخيرة تسبب في خروج جيل جديد متشدد لا يعلم من دينه سوى الجهاد والحرب والنقاب والحديث عن إقامة الخلافة الإسلامية دون وعي”.

وتابع المندري “المدارس الإسلامية عندنا مختصة بالأساس في حفظ القرآن، لكن ما حدث هو دخول كتب كثيرة ذات نزعة متشددة، والاعتماد على كتب ابن كثير كمنهج في التدريس والتعلم، عندما يخرج طفل وقد تعلم القرآن بالكرباج والعصا، ويرى أن الشريعة واجبة وفريضة ويجب تطبيقها عنوة، من الطبيعي أن يكون أول اختياراته الانضمام إلى جماعة إرهابية تتبنى العنف طريقا لها”.

المواجهة العسكرية لم تعد كافية في ظل تمدد التطرف، وعززت هذه المسألة ضرورة المواجهة الفكرية عبر خطاب منفتح

تمثل دول أفريقيا بيئة خصبة لنمو الإرهاب والتطرف حاليا، ويدرك تنظيم داعش الإرهابي ومن قبله القاعدة، أن بعض الدول الأفريقية الممزقة حاضنة مميزة لبناء مراكز متنوعة لإدارة العمليات الإرهابية في بعض دول العالم، وتجنيد العشرات من الشباب المسلم بسبب غياب المستوى التعليمي المطلوب.

رصدت تقارير دولية، وآخرها مركز لاهاي لمكافحة الإرهاب، أن هناك تمددا ونشاطا ملحوظا لتنظيم داعش في أماكن متفرقة في شرق وغرب أفريقيا، عبر توظيف القنوات المحلية في دول مثل الصومال وجيبوتي ونيجيريا ومالي.

مثلت المدارس الإسلامية والكتاتيب الصغيرة لتعليم الأطفال سابقا، بؤرة أو مركز جذب للمتطرفين، بعد أن سيطر عليها الفكر الجهادي، وأولى قضايا دينية شائكة ومعاملات إسلامية خاصة بحد السرقة والزنا والناسخ والمنسوخ اهتماما، على حساب المعاملات الأخلاقية والصفات النبيلة التي تحض على اللين والتسامح.

ويتكون المجتمع الكيني من نسيج متعدد من الاختلافات العرقية والدينية، مع وجود أغلبية مسيحية متركزة في الوسط والجنوب، وأقليات من قبائل مساي ومتسو، ونازحين من بوروندي والكونغو الديمقراطية ومالاوي، وجدوا ملاذهم في الاستقرار النسبي بكينيا، حتى تحولت إلى مركز لاستقطاب شعوب من الدول المحيطة التي تعاني من النزاعات والتوترات المزمنة.

دحر الإرهاب

حاولت كينيا منذ عقدين توجيه خطة ممنهجة لدحر التطرف في شمال كينيا والقادم من دول تقع في منطقة القرن الأفريقي، عبر برامج سياسية وأمنية مشتركة مع الصومال، والقيام بتحركات دبلوماسية لتسجيل حركة شباب الصومال كمنظمة إرهابية في دول مختلفة، وقطع الطريق على قفزاتها الأمنية المتلاحقة. لكن ذلك لم يحقق النجاح المرجو لحماية الدولة الكينية.

اجتزأ سعيد مجادو، إمام مسجد الصحابة بمدينة ماليندي الساحلية في جنوب شرق نيروبي، غرفة من منزله لتكون مدرسة تعليم الدين الإسلامي السمح، قائلا “إن العلاقة بين كينيا والصومال مضطربة على المستوى الشعبي والسياسي، جراء النشاط الملحوظ للجماعات المتطرفة وإصرارها على التدخل في كينيا”.

وبعد صلاة العصر أوضح لـ”العرب” أن العمليات الإرهابية والخلاف الحدودي على بعض المناطق بين البلدين صنعا احتقانا مضاعفا، وزادا من العنصرية ضد المسلمين والصوماليين المقيمين في كينيا، “من واجبنا في مراكزنا التعليمية أن نشجع على المؤاخاة وتعليم الدين الصحيح”.

وأشار مجادو إلى أن تعلم الدين لا يقتصر على الفقه والسنة، بل ينبع من تعلم قبول الآخر وتقبل ثقافة الاختلاف والعيش في سلام، وأهم ما يتلقاه من دعم خارجي الكتب والمناهج الصحيحة والوسطية التي تأتي من علماء في الأزهر بالقاهرة وعلماء من مكة والمدينة المنورة، لأن بداية الإصلاح ومواجهة التشدد من تطبيق منهج الفكر الوسطي على الأطفال.

عند التجول بين الأحياء المسلمة في مومباسا، يبدو للوهلة الأولى أن هناك زيا شعبيا دينيا فُرض على الناس، ومنه حجاب الصغيرات وارتداء الملابس الواسعة (الإسدال) من قبل السيدات، واستخدام القسوة والضرب في الأسلوب التعليمي.

وتلعب جامعات مثل الأزهر في مصر والقرويين بالمغرب، وبعض القوافل الدينية من الإمارات والسعودية والكويت، دورا إيجابيا في دعم المدارس الناشئة، وتدعمها علميا وماديا عبر توفير مدرسين وكتب وأدوات دراسية.

لفت مجادو إلى أن ذلك لا يعد كافيا، فعلماء كينيا في حاجة ماسة إلى السفر لتعلم المزيد من طرق التعليم وإدراك صحيح الدين في تعلم الفقه والشريعة وكيفية تعليم الصغار واختيار الأولوية في الموضوعات الدينية المتعددة.

13