كيف يبدد قيس سعيد ضبابية الاستفتاء

الجدل حام في السطح بين أنصار الرئيس التونسي قيس سعيد وخصومه حول الاستفتاء بين من يدفع إلى التصويت بنعم فقط لإغاظة جماعة 24 يوليو وما قبلها، وخاصة إغاظة حركة النهضة، وبين من يدفع إلى التصويت بلا مطلقا دون مناقشة أي تفاصيل حول الدستور المقترح، ويوجه نقدا لصاحب النص وليس للنص.
المؤشرات الحالية تقول إن التصويت سيكون تصويتا سياسيا وليس له عمق شعبي سواء للرافضين أو الداعمين بالرغم من أن قيس سعيد له شعبية كبيرة. لكن الناس في قلب الأزمة الاقتصادية الراهنة، وفي ظل ارتفاع الأسعار، وما يروج من إشاعات وتسريبات بشأن المستقبل وخاصة ما تعلق برفع الدعم، وانسحاب الدولة التدريجي من دورها التقليدي في الرعاية، كلها عناصر تزيد من الضبابية في تحديد اختيارهم.
لماذا لا يصدر قصر قرطاج خلاصة لأهم التعديلات التي ستحدث بالدستور وألا يترك الأمر لتفسيرات الأحزاب والخصوم السياسيين، وهي تفسيرات غالبة ومسيطرة في وسائل الإعلام التقليدية وفي وسائل التواصل الاجتماعي.
من المهم التوجه إلى شريحة الشباب الذين كانوا السند الحقيقي للرئيس سعيد في انتخابات 2019، وكانوا داعمين لإجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021 وتظاهروا لدعمها، ماذا يحمل لهم الدستور الجديد، كيف يتعامل مع أزمة البطالة وأزمة خريجي الجامعة
ما يسمعه الناس أن الرئيس غيّر الدستور حتى يستطيع أن يضع يده على كل المؤسسات، ليصبح هو من يتحكم بالبرلمان والحكومة. لكن تغيب عنهم العناصر الاقتصادية والاجتماعية الخادمة لهم بعيدا عن صخب السياسة والسياسيين بمن في ذلك أولئك الذين كانوا في قلب العملية السياسية التي سبقت الخامس والعشرين من يوليو، وانتقلوا من باب البراغماتية ليكونوا في صف قيس سعيد.
هؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا مفسرين للدستور الجديد بل منفرين حتى وإن غيروا أثوابهم، فهم في النهاية وجه من وجوه الأزمة، وساهموا في رذائل البرلمان القديم، وقايضوا وقبضوا وشاركوا في حكومات سابقة سواء بشكل علني كوزراء، أو بشكل سري، حيث تمت صفقات تحت الطاولة في العشرية الأخيرة استفاد منها الجميع بمن في ذلك هؤلاء الذين يلعنونها صباح مساء.
الأفضل لمؤسسة رئاسة الجمهورية أن تنزل خلال الساعات القادمة، وقبل أسبوع من الاستفتاء، ملخصا دقيقا فيه مجموعة من العناصر الواضحة ويتم توزيعها على الناس، من ذلك ما جاء من فصول تؤكد أن الفقراء من حقهم على الدولة أن تبحث لهم عن وظائف، وخاصة ربطه الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية، وهذا يعني أن الأولوية ليست للسياسة ولا للسياسيين كما حصل في السنوات الماضية، بل لخدمة الناس وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وأن الدستور الجديد قلب المعادلة تماما وجعل السياسة عنصرا من عناصر تتمحور كلها حول الناس.
كما أن التأسيس لمجلس للجهات والأقاليم كمؤسسة تشريعية موازية للبرلمان وبمهمة واضحة هي متابعة التنمية وأخبارها ومشاريعها ومراقبتها خطوة مهمة ليس كما يقول خصوم قيس سعيد في التأسيس للحكم القاعدي، ولكن لتصويب الأمور. فالبرلمان في صيغته السابقة كانت تناط له مهام كثيرة ومتنوعة، لكنه كان يهتم فقط بالسياسة وقوانينها ومشاريعها خدمة للأحزاب التي رشحت النواب ودعمتهم، والمطالبين بتنفيذ أجنداتها. وستكون مهمة المجلس الجديد، وهو مجلس منتخب من الجهات، هي استلام ما تم تغييبه في السنوات العشر الأخيرة، ومتابعة الملفات المهملة والمشاريع المعطلة وهي كثيرة من ذلك ملفات الطرقات السيارة، وخطوط القطارات العصرية في محيط العاصمة، وميترو صفاقس وغيرها من المشاريع الكبرى.
من المهم التوجه إلى شريحة الشباب الذين كانوا السند الحقيقي للرئيس سعيد في انتخابات 2019، وكانوا داعمين لإجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021 وتظاهروا لدعمها، ماذا يحمل لهم الدستور الجديد، كيف يتعامل مع أزمة البطالة وأزمة خريجي الجامعة.
ما يسمعه الناس أن الرئيس غيّر الدستور حتى يستطيع أن يضع يده على كل المؤسسات، ليصبح هو من يتحكم بالبرلمان والحكومة. لكن تغيب عنهم العناصر الاقتصادية والاجتماعية الخادمة لهم بعيدا عن صخب السياسة والسياسيين
هذه رسالة مهمة للحفاظ على زحم التغيير الذي يحلم به كثيرون، لكن الحماس بدأ يفتر في ظل تركيز قيس سعيد على التغييرات السياسية ضمن الأجندة المرحلية، وهو ما يحيل إلى نفس الأزمة الماضية، حيث لم يعمل البرلمان والأحزاب المسيطرة عليه سوى على تنفيذ الأجندة السياسية ومن بينها دستور 2014، فيما ظل الوضع الاقتصادي هامشيا، ولم يتم تنفيذ أي برامج اقتصادية ذات وزن، وتم تهميش المناطق الداخلية والأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى، وهي أحياء كانت لها بصمة واضحة في إسناد الثورة، وذلك بالرغم من الشعارات حول العمق الاجتماعي للثورة.
يحتاج الناس الذين يقارنون بين ما تحقق سابقا ويتحقق حاليا أن يجدوا الفوارق التي تشجعهم على الاستمرار في دعم قيس سعيد.. والدستور الجديدة فرصة لضبط الفوارق.
بعيدا عن الضجيج، يمكن أن يتحرك الوزراء والمسؤولون بوثيقة مختصرة وواضحة توضح للناس لماذا يصوتون لفائدة الدستور الجيد. وهكذا يذهب التونسيون إلى الاستفتاء وهم يعرفون بالضبط مقاصد الرئيس سعيد لأن من الصعب على التونسي العادي مطالعة نص الدستور كاملا وفهم مفرداته والتغييرات المقترحة فيه.
سيتحرك الناس في هذه الحالة بقناعة وحماس ويفسرون لغيرهم الفصول الجديدة طالما أن الأمر يعنيهم، لكن في الوضع الحالي فإن الأمر متروك للصدفة، حيث يكتفي الرئيس سعيد لوحده بالظهور للدفاع عن الاستفتاء، وكثيرا ما يركز على الجوانب السياسية في سياق الردود على المناكفات وحملات التشويه المضادة، وهي متعددة ومتنوعة ولا تقف عند جهة واحدة، حيث يشترك اتحاد الشغل مع النهضة ومنظمات من المجتمع المدني والحقوقي في الحملة على الدستور، في المقابل المفسرون الذين يظهرون في الواجهة من داعمي الرئيس محدودو التأثير والإقناع خاصة أن البعض منهم يدعم بانتهازية ويريد استثمار اللحظة للتقرب من قيس سعيد ولعب دور “حزب الرئيس” و”حزام الرئيس”، وهي لعبة مكشوفة.