كيف نكون إيجابيين قادرين على التجاوز

من تجربة خاصة وأسرية واجتماعية أيضا، نلاحظ أن الابتسامة على قلتها أضحت “صفراء” ملوّنة بألوان المجاملة، خالية من كل أثر عاطفي أو وجداني. السبب على ما يبدو أننا أصبحنا غير قادرين على إنتاج المشاعر الإيجابية سواء في دواخلنا أو في المحيط البشري والاجتماعي الذي نتحرك في فضاءاته المتنوعة.
الشخص السلبي هو الذي يتعامل مع مشكلاته اليومية بنوع من الرهبة والخوف واستحضار السيء دون الجميل، وقد اكتشفت في نفسي البعض من هذه السلبية وأنا واع شديد الوعي بها وبمخلفاتها النفسية وأحاول جاهدا تجاوزها بصناعة طريق وردي نهايته أمل متجدّد.
نحن لم نتعلّم بالشكل الجيّد، لا في أسرنا ولا في مدارسنا ولا في مؤسساتنا الاجتماعية، كيف ندعم أنفسنا وقت الشدائد، وكيف نؤازر الآخرين في محنهم ونرفع من منسوب الإيجابية والتفاؤل لديهم. فعلى سبيل المثال كل الناس تقريبا يمرون بحالات مرضية تختلف حدّتها، فلا يفكّرون إلا في الأسوأ، ويأرقون وتسرح بهم عقولهم في شتى الدروب والمسالك، ويسبّقون الأسوأ على السيء والسلبي على الإيجابي وبذلك يؤخّرون شفاءهم لأنه من المتعارف عليه أن الثقة في الشفاء أول طرق العلاج.
أما الحالات الأخرى فتترتب على الانتكاسات في الحياة الخاصة والعامة كالرسوب وعدم النجاح في الدراسة أو الفشل في الأعمال أو العجز عن عقد صلات زوجية واجتماعية مثمرة. يتعب الشخص نفسه بـ”الهلوسة” والتفكير بطريقة سلبية دائما، وتتمكن منه المشاعر السيئة حتى تلازمه في يقظته ومنامه، وما يزيد من توتره تعمّد الذين من حوله إما بالتعامل معه بلامبالاة وإما أنهم يضخمون ما يمرّ به عوضا عن دعمه نفسيا ليتجاوز محنته.
على المستوى الأسري مثلا كلما كان أفراد العائلة منسجمين ويعيشون حياة تشاركية ليس على المستوى المادي فقط بل على المستوى النفسي وهذا هو الأهم، كلما كانوا قادرين على إنتاج الحياة الإيجابية. فالتشارك يعني الامتداد والتواصل الروحي بين الجميع يحسون بأزمات بعضهم ويبحثون بجدية عن الحلول ويؤازرون بعضهم في حالات الصحة والمرض، والنجاح والفشل، والهدوء والتوتر، والشجاعة والخوف.. في بعض الأحيان يقوم أحد أفراد العائلة بحركة بسيطة جدا تكون كفيلة بأن تعطي درسا تربويا غاية في الأهمية، كأن يربّت على كتفيْ مراهق أخطأ قولا أو فعلا أو فشل في امتحان ما.
وعند زيارة مريض ما يخطئ البعض من زوّاره -عمدا أو تلقائيا- ويفصحون عن خوفهم ويدعمون ذلك بألفاظ من قبيل “أصبح جسدك نحيلا”، “وجهك مصفرّ”، وتكثر التحليلات الطبية دون معرفة علمية، وهو ما يزيد من وطأة المرض على المريض.
قد يصل التفكير السلبي بالبعض إلى حدّ التفكير في الانتحار، ولكن في المقابل قد يقوم أحد الأشخاص بعمل بسيط غير مكلف وهو مؤمن بجدواه وفاعليته الإيجابية، من ذلك أن خبرا نقلته وسيلة إعلامية خاصة مفاده أنه في بلد غربي وصل معدّل الانتحار خمس عشرة حالة في السنة، فقامت فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها بإنجاز تشكيلة من الشعارات القصيرة والصور الملوّنة تذكّر فيها بالطاقة الإيجابية الكامنة في الذات البشرية والتي بإمكان الناس من خلالها أن يتجاوزوا كل المشكلات مهما كانت عويصة وتستعصي على الحل، وأن يعوا بأن الحياة قيمة إنسانية من الضروري المحافظة عليها، وعرضت إنجازها على جسر فتمكنت من إنقاذ ست حالات من الانتحار.
ثقافة التجاوز والأمل الدائم والشعور العميق بالحياة هي وحدها الكفيلة بخلق وتنمية المشاعر الإيجابية، وهي الوصفة السحرية للتعايش مع الأوضاع مهما كانت تعيسة ومؤلمة. فعلى المكلوم عندما يستيقظ صباحا، بعد ألم أو كابوس، أن ينظر في المرآة ويقول بكل ثقة “أنا لا أزال حيّا”، وينطلق بدافع الحياة ليجابه مشكلاته اليومية مبتسما حالما واثقا في مستقبل أفضل.
هذه الثقافة يجب أن تدخل في منظومة التربية الأسرية منذ الصغر، حيث تعلّم الأمّ أولادها الصبر على الشدائد، وتبتسم في وجوههم حتى عند الفشل، وتنقص من تأنيبها وعتابها. أما الأب فيجب أن يكون الصدر الحنون لأبنائه، يدعمهم بالكلمة الطيبة، ويزرع في نفوسهم القدرة على الاحتمال والتجاوز.
لماذا نعتبر الفشل مصيبة؟ إنه ليس سوى تجربة من تجارب الحياة، فـ”لكلّ جواد كبوة”، وعليه بإمكاننا أن نتعامل مع الفشل وفق هذا المنطق دون إطلاقية فـ”كل جمال به شيء من القبح، وكل قبح لا يخلو من جمال”، نستثمر الفشل والأوقات العصيبة لننطلق في بناء جديد، فإن ذلك لا يعدو كونه أخطاء أو أفكارا يجب تصحيحها في التجارب اللاحقة وكما يقال “الضربة التي لا تقصم ظهري تقوّيني”.
صنع المشاعر والأفكار الإيجابية بقدر ما هو فعل ذاتي فهو بالضرورة فعل مشترك في الفضاءين العائلي والاجتماعي، وليس أفضل من الابتسامة والتشجيع والمؤازرة لنعاضد بعضنا البعض ونتجاوز محننا بأقل الأضرار النفسية والجسدية.