كيف تم تجريف العقل المصري

المتأمل في طريقة تفكير الناس وباستقراء آرائهم عن الدين وما يتصل به من مسائل حياتية سيجد أن الغالبية العظمى تتبنى رأيا موحدا متشددا تعتبره عقيدة حتى لو كان خلافيا.
الخميس 2022/03/03
عقيدة مشوهة لا تؤمن بالاختلاف

كان من المفترض أن يكون هذا المقال عن الحب وعن تاريخ عيد الحب في العالم وقصة عيد الحب المصري والجنازة التي حولها مصطفى أمين إلى عيد. ولكن تصادف أن قرأت تصريحا للشيخ أحمد ممدوح مدير إدارة الأبحاث الشرعية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية أن الشرع لا يمنع تخصيص يوم والاحتفال فيه بالحب طالما أن ذلك لا يتعارض مع تعاليم الدين واستوقفتني التعليقات على الخبر. فالبعض استنكر والبعض تطاول قائلا إن هذه ليست دار الإفتاء إنما دار الكفتة، والبعض أطلق على المفتي لقب الأنبا والبعض تساءل متى سنعود إلى عبادة الأصنام! تلا ذلك مباشرة الجدل الحاصل حول أحد التنويريين الذي أثار الجدل حول مسألة خلافية معروفة لكل دارس للشريعة. ومرة أخرى طالعت ردود أفعال الناس حول الأمر والرافضين لمجرد القول بأن في الأمر خلافا قديما ووصل الأمر إلى التهديد بالقتل.

إن المتأمل في طريقة تفكير الغالبية من الناس وباستقراء آرائهم عن الدين وما يتصل به من مسائل حياتية سيجد أن الغالبية العظمى تتبنى رأيا موحدا متشددا تعتبره عقيدة حتى لو كان خلافيا، وستجد أن هذا الرأي غالبا ما تتبناه التيارات الدينية المتشددة وبالأخص التيار السلفي الذي هو نسخة منقحة من الوهابية. فمن أين أتى هذا الرأي الواحد المتشدد؟ وكيف تغلغل في ثنايا العقل المصري طاردا أي رأي آخر؟ ولماذا؟

عند الحديث عن ظاهرة التديّن في القرن العشرين وما تلاه فإن كثيرا من المحللين يعزون ظاهرة الحنين إلى الماضي والاحتماء بالتراث إلى العديد من الأسباب والإخفاقات بعد سقوط الخلافة وما تلاها وحرب 48 وبعد هزيمة 67. ولكن أيا كانت أسباب ذلك التراجع الذي تجسد فعليا مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية المتشددة وتمهد بعد ظهور دولة العلم والإيمان، ظل الأمر يسير بالتدريج نحو التشدد في الدين، وبعد أن أصبحت الأرض ممهدة سائغة ظهر الانحدار السريع مع دخول الفكر الوهابي والذي لم تنتبه له الدولة المصرية ربما لأن ذلك التيار كان لا ينازعها السلطة ولا يحمل السلاح وربما لأسباب أخرى ولكن كان لذلك أبلغ الأثر على العقل المصري.

اسأل اليوم أي مار في الطريق عن حكم الغناء سيجيبك بأنه حرام حتى لو كان هذا الشخص يستمع للغناء بالفعل. وهكذا ابتليت الأمة المصرية بالتشوه الفكري الديني

كان اختراقهم ممنهجا ومرتبا ومدعوما وسار في عدة مستويات متوازية. أولها، خطة اختراق الطبقات الدنيا والمتوسطة. وثانيها، خطة اختراق الطبقات العليا. وثالثها خطة السيطرة على مصادر المعرفة.

لم يكن اختراق الطبقات الدنيا والمتوسطة صعبا عليهم، فالناس في تلك الطبقات هم الأقرب لظهور التدين نظرا لمعاناتهم الحياتية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وبحثهم عن معزى ومعين. وبالطبع فإن التدين الشكلي الذي يدعو إليه هذا التيار كان سهلا وفي متناول الجميع: ما عليك إلا أن تطلق لحيتك وتقصر جلبابك وترتدي زوجتك النقاب الأسود ولا تستمع إلى الغناء وسيكون كل شيء على ما يرام.

هكذا انقسم الشارع المصري في وقت الصلاة إلى مسجدين مختلفين، أحدهما يؤمه إمام أزهري “بائس”، والآخر إمام سلفي لا ينفك عن الصياح ولا يكتفي بالخطبة المعتادة بل يتبعها بدروس ما بعد الصلاة. وشيئا فشيئا ازدادت الحصر أمام مسجد السلفيين وانحسرت من أمام المسجد الآخر حتى قضت عليه. ومع دعمهم لدروس التقوية للطلاب ودروس التحفيظ للنساء وتوزيع الكتيبات الصغيرة والملصقات التي ملأت الشوارع والحافلات وأعمدة الإنارة والجدران في كل مكان تحمل عبارات قصيرة مركزة مثل “اللحية فرض”، “الغناء حرام”، “سينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء”… إلخ، حتى تعتادها الأعين ومن ثم تدخل في لاوعي الناظر إليها شيئا فشيئا حتى تترسخ وتصبح حقيقة مطلقة يتبناها كل واحد حتى لو لم يكن ينتمي إليهم ولا يشعر. ويكفي الآن أن تتنزه في الشارع بعد صلاة المغرب أو العشاء في مكان مثل باكوس بالإسكندرية لتجد طوفانا بشريا ذا سمت واحد يخرج من مساجد بعينها بعد الصلاة لتعرف إلى أين وصل تأثيرهم ونفوذهم. هذا بالإضافة إلى من أصبح يتبنى فكرهم ولا ينتمي إليهم.

أما اختراق الطبقات العليا، ففتش عن المرأة. فقد بدأ بظهور دور تحفيظ القرآن النسائية في المناطق الراقية. وغالبا ما كانت القصة وراء ظهور الدار، امرأة عادت مؤخرا من إحدى الدول الخليجية وتريد إنشاء مشروع تختم به حياتها بالمزيد من الحسنات. وكانت تلك الدور لا تصرح بأنها تتبع فكرا معينا إنما كانت كل من تعمل بالدار تنتسب إلى الدعوة السلفية والجو العام كله والكتب التي توزع هناك وشرائط الكاسيت تجبر المرء إجبارا على السمت السلفي وتبني فكره حتى وإن لم يشعر. وقد كان ذلك سهلا لسببين: أولهما، أن تلك الأفكار غالبا ما تكون قد لامست عقلا لا يحمل قناعات دينية راسخة فكانت الغلبة للمعلومة الأولى التي دخلت إليه غالبا، وصار من الصعب إقناعه بغيرها. وقد سمعت بنفسي حوارا شيقا بلغة هي خليط من الفرنسية والعربية الركيكة بين سيدتين تحاول إحداهما إقناع الأخرى بالانضمام إليها لدراسة الدين والشرع، والأخرى تستفسر ما هو الشرع؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟ أما السبب الثاني، فيكمن في الجو العام الذي تجد نفسك مسايرا إياه ومتجنبا مخالفته. ثم أصبحت الدروس الدينية تنعقد في أفخر الفيلات والبيوت وتحولت النساء إلى لبس العباءات، وظهرت العباءات والملابس الإسلامية من أفخر الماركات. وقد كان هذا كافيا لهن. وقد سمعت ذات مرة مديرة لأحد البنوك الأجنبية الشهيرة وهي تشكو لأنها تشعر بالذنب لأنها لا تستطيع الذهاب إلى عملها في البنك بالعباءة.

أصبح المجتمع المصري يحمل عقلا وهابيا صرفا ولا يدري عن التنوع ومسائل الخلاف وأصبح مؤمنا بالرأي الواحد والقول الواحد

أتذكر أحد المشايخ على الفضائيات عندما سألوه عن الداعية الشاب الذي ظهر مؤخرا -أي في ذلك الوقت- مخترقا الطبقات العليا وسألوه ما حكم السماع له لأنه ليس ملتحيا ولا يتبع تيارهم. وقد أجاب الشيخ بأذكى إجابة على الإطلاق إذ قال إنه سعيد لظهور هذا الشاب لأنه يجذب الناس إلى الدين فإذا أرادوا أن يعلموا عن دينهم أكثر فسوف يأتون إليه هو حتما.

نعم فقد كانوا هم مصدر المعرفة الدينية وقد كان هذا المحور الثالث.

قبل انتشار الإنترنت ودخولها إلى البيوت كانت شرائط الكاسيت لمشايخهم تباع على الأرصفة بأزهد الأثمان مع كتيبات في العقيدة وآداب اللباس والأذكار. ولما ظهرت الفضائيات ودخلت الأطباق الفضائية إلى البيوت لم تكن هناك قنوات دينية إلا وهم ملاكها وأصحابها. ثم من بعد دخول الإنترنت إلى كل بيت كانت كل المواقع والمنتديات الدينية ومنصات الفتوى لهم باستثناء القليل كان يتبع الإخوان المسلمين ومنتدى واحدا تقريبا أنشأه طلبة الأزهر لأنفسهم وأيضا كانوا هم نجوم برنامج البال توك وحوارات الأديان فتجد أن أي محاولة للبحث عن معلومة دينية ستجد فتاواهم جاهزة. والأدهى من ذلك والأمر هو مأساة دور النشر. وقد رأيت بنفسي في درب الأتراك وما حوله معقل دور النشر هناك وهم مسيطرون عليه، ينشرون كتبهم بل ويعيدون نشر كتب التراث مرة أخرى مع التنقيح، أي التغيير والتبديل أحيانا وأحيانا أخرى بوضع الحواشي على الكتاب تدعم مذهبهم وتخطئ صاحب الكتاب.

وهكذا اكتملت السيطرة على مصادر المعرفة. ثم بعد أن كانوا يجهرون بمعاداة الأزهر ووصم عقيدته، قرروا اختراقه وبدأوا في الانضمام إليه. كانت البداية أولا بأقسام الحديث والعقيدة وقد رأيتهم في مطلع الألفية الثالثة يدرسون في كلية أصول الدين بجلابيبهم القصيرة ونعالهم المميزة ومنهم من ترقى وأصبح أستاذا ومعيدا بالكلية. ولا أعلم إلى أي مدى وصلت الآن سيطرتهم من داخل الجامعة بل إلى أين وصل نفوذهم داخل وزارة التربية والتعليم والصحة وغيرها.

وهكذا أصبح المجتمع المصري يحمل عقلا وهابيا صرفا ولا يدري عن التنوع ومسائل الخلاف وأصبح مؤمنا بالرأي الواحد والقول الواحد ويثور ويثأر إن حاول أحد أن يدعي أن أي أمر من الأمور يتسع لاختلاف الآراء أو أن به سعة ما، كما حدث مع الدكتور سعدالدين الهلالي الذي كان حريصا دائما على عرض جميع الآراء وبيان أن الأمور الخلافية تحمل السعة.

اسأل اليوم أي مار في الطريق عن حكم الغناء سيجيبك بأنه حرام حتى لو كان هذا الشخص يستمع للغناء بالفعل. وهكذا ابتليت الأمة المصرية بالتشوه الفكري الديني وتشويه تراثها وتزوير تاريخها بل أقول بتجريف عقول أبنائها.

وهكذا وجدتني بعد أن كنت أريد الكتابة عن الجنازة التي تحولت إلى عيد أكتب عن العيد الذي تحول إلى جنازة حدادا على العقل المصري وأنا أستمع إلى أم كلثوم تشدو: قول الحب نعمة مش خطية.

9