دولة مدنية مصرية إلا ربعا

تطالعنا الصحف يوميا بالعديد من الأخبار التي قد تبدو ظاهريا عادية حتى وإن أثارت الجدل، ولكن يظهر للمتأمل في ردود أفعال الناس تجاه بعض الأخبار تناقضا واضحا. ففي الفترة الأخيرة تصدر عناوين الصحف خبران يبدوان متشابهين ولا يفصل بينهما إلا عدة أشهر، وبالرغم من ذلك فإن ردود الفعل كانت مختلفة تماما، بل ومتناقضة تجاه كل منهما.
الخبر الأول كان منذ عدة أشهر عندما تم تعيين رافيا أرشد كأول قاضية محجبة في بريطانيا، ومن قبلها فازت الهان عمر في انتخابات مجلس نواب لتصبح أول عضو بالكونغرس الأميركي يرتدي الحجاب وثاني امرأة مسلمة بعد الفلسطينية رشيدة طليب، وقوبل الخبر بارتياح عام في بلادنا العربية الإسلامية حتى إن صورها تصدرت الصحف تحت عنوان مسلمات فرضن أنفسهن في الغرب، وعلّق مرصد الأزهر قائلا إن تعيين رافيا هو خطوة إيجابية وانعكاس حقيقي لاندماج المسلمين داخل المجتمعات الغربية.
أما الخبر الثاني فمنذ عدة أيام عندما تم تعيين المستشار بولس فهمي رئيسا للمحكمة الدستورية العليا في مصر. وعلى النقيض من الترحيب بأخبار المسلمات في الغرب، فقد قوبل الخبر باستياء شعبي. وهكذا يعود بنا الجدل إلى أكثر من ألف عام إلى الوراء ليتساءل المصريون كيف لغير المسلم أن يتولى منصبا كهذا؟ هل ذلك يجوز شرعا؟ هل يجوز قانونا مع وجود المادة الثانية للدستور المصري التي ترجع أحكام القانون إلى الشريعة الإسلامية؟
إن هذا التناقض يجعلنا نعتقد أن المدخل الحقوقي والحديث عن دولة المواطنة قد لا يكفي لمعالجة هذه القضية، فإن قضية التمييز الديني في مصر ليست منبتة الصلة بالتاريخ كما يقول الكاتب عادل الجندي. فلنستقرئ التاريخ إذا ونتساءل: ما هو وضع غير المسلمين في ظل الخلافة الإسلامية عمليا؟ هل استعانت الخلافة بغير المسلمين في أي من المجالات؟ وهل ساهم غير المسلمين في نهضة الحضارة العربية الإسلامية؟
لو اعتبرنا أن ما يفخر به العرب المسلمون الآن هو الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية، فإننا يمكن أن نعتبر أن فرسانها من غير المسلمين كانوا إحدى أهم الدعائم القوية التي قامت عليها تلك النهضة العلمية
الإجابة عن تلك الأسئلة يسيرة، فكتب التاريخ لم تبخل بالإجابة عن تلك التساؤلات. وباستقراء بسيط نجد أنه منذ الفتح العربي لمصر وحتى نهاية الخلافة الأموية لم يكن لدى الخلفاء أي خطط نهضوية أو ثقافية للدول المفتوحة، وكانوا مشغولين بضم المزيد من البلدان والتوسع شرقا وغربا، ولم تكن مصر تمثل لهم أكثر من سلة الغلال أو البقرة الحلوب على حد تعبيرهم كما جاء في الآثار.
وعلى الرغم من ذلك فإن الخلفاء والولاة قد ارتأوا عمليا أن أفضل من يقوم بشؤون البلاد هم أهلها من الأقباط، فسلموهم إدارة العديد من الأمور المالية والإدارية والحسابية، ولم لا وهم الأقدر على القراءة والكتابة والحساب والطب؟ وقد كان العرب الذين على دراية بتلك العلوم في ذلك الوقت قلة قليلة بما لا يتناسب مع حجم الدول ومتطلبات إدارتها.
وعلى الرغم من أن التاريخ حفظ لنا مرارا اعتراض بعض الخلفاء واستيائهم من تولي الأقباط لهذه الوظائف كما صرح بذلك عمر بن عبدالعزيز أو الخليفة المهدي، ولكن الواقع العملي هو ما اقتضته المصلحة. فتسليم الأمور لمن هو الأكفأ والأقدر على إدارتها هو الصحيح وهو ما كان.
حتى جاء العصر العباسي الأول الذي يسمى بالعصر الذهبي وهدأت حركة الفتح والتوسع وانتقلت الخلافة إلى بغداد. بداية من تولي هارون الرشيد ومن بعده ابنه المأمون، حدثت ثورة فكرية كبرى كانت إحدى ركائزها القوية حركة الترجمة ثم حركة التأليف المبني على العلوم التي تمت ترجمتها. فقد أنشأ هارون الرشيد أول دار علمية في الحضارة العربية الإسلامية سميت باسم دار الحكمة كمركز علمي للبحث والترجمة والتأليف والتعليم، فترجمت كتب الطب والهندسة والآداب والتاريخ والرياضيات، ترجمت كتب أفلاطون وأرسطو طاليس وأبقراط وبطليموس، ترجمت كنوز الحضارة الفارسية والهندية واليونانية حتى أصبحت لغة العلوم في هذا الزمان هي العربية. فمن يا ترى كانوا فرسانا لهذه الأعمال؟ لم تجد الخلافة أي حرج في الاستعانة بأصحاب الكفاءة من أهل الذمة، فأسسوا المدارس وترجموا الكتب وفيهم الصابئة والأقباط والبراهمة والمجوس واليهود.
يصف الجاحظ وضع المسيحيين في عصر الدولة العباسية فيقول “إن النصارى متكلمون وأطباء ومنجمون وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء، وإن منهم كتاب السلاطين وفراش الملوك وأطباء الأشراف والعطارين والصيارفة”.
أزهى العصور الإسلامية هي التي كانت فيها الكفاءة تعد هي المعيار في اختيار الأصلح
وبزغت في عالم الثقافة أسماء مثل حنين بن إسحق الذي ولاه المأمون ديوان الترجمة في بيت الحكمة، وهو أول من جعل الترجمة بالمعنى وعرّب بعض الألفاظ التي كانت لا توجد في اللغة العربية، وآل بختيشوع الذين نقلوا ومارسوا علم الطب لمدة ثلاثة قرون متتالية، ويوحنا بن البطرق وغيرهم الكثير.
ولو اعتبرنا أن ما يفخر به العرب المسلمون الآن هو الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية، فإننا يمكن أن نعتبر أن فرسانها من غير المسلمين كانوا إحدى أهم الدعائم القوية التي قامت عليها تلك النهضة العلمية. فلولا اجتماع الترجمات من شتى الحضارات لديهم ومن ثم تطويرها والإضافة إليها لما كانت نهضة، وهي نهضة الحضارة التي يعتز بها المسلمون، والتي يفتخرون بأن الغرب نقلها عنهم بعد ذلك وساعدت في دخوله عصر العلم الحديث.
وكذلك كانت الأندلس درة الحضارة العربية الإسلامية، فبزغ اسم شموئيل اللاوي الملقب ببن النغريلة الوزير اليهودي الكاتب الذي برع في العلوم المختلفة مضيفا إليها العلوم العسكرية، مما جعل حاكم غرناطة يقربه وجعله أحد وزرائه، ومثله كان موسى بن ميمون الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي وغيرهما.
فالكفاءة كمعيار كانت هي الأقوى من كل خلاف عقدي، وأن أزهى العصور الإسلامية هي التي كانت فيها الكفاءة تعد هي المعيار في اختيار الأصلح. هذا ما تفعله الدول العلمانية المتقدمة الآن فتستعين بالكفاءات والخبرات وتغض النظر عما سوى ذلك، ونحن الآن نعود بعد ألف عام لنتساءل عن ماهيه دين أو عقيدة لا عن معيار العلم والكفاءة في المنصب.
وقد رُوي في الأثر “إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة”. فالدين شأن بين الإنسان وما يعبد، ولا يُصلح الدولة إلا العدل، وإن تولي الكفاءات لهو أعدل العدل. ولكن على الرغم من أننا نزعم أننا في دولة مدنية ودولة مواطنة يتساوى أمام قانونها كل المواطنين، إلا أننا نعود ونتحجج بالمادة الثانية للدستور لحجب المنصب عمن هو كفء له بسبب عقيدته، وهكذا فإننا أصبحنا دولة مواطنة على استحياء أو دولة مدنية إلا ربعا.