كوميديا الوباء تنتعش في الفضاء الإلكتروني

مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في رواج النكتة وأصبح كل شخص بمثابة جهاز إعلامي في حدّ ذاته.
الخميس 2020/04/09
السخرية ترفع مستوى النقد

السخرية ابنة الكوميديا التي كانت تسعى إلى إحداث الشعور بالبهجة أو بالسعادة من خلال أسلوبها المرح والمفارقات التي تخلقها. المفارقات والمرح هما ما استغله الكثيرون في اعتماد السخرية ثقافة للنقد أو مجالا للتسلية أو لنقل رسالة أو عبرة. وإضافة إلى فنون كثيرة مثل الكاريكاتير والغناء الفكاهي، دخلت السخرية قالبا أكثر انتشارا هو النكتة.

يقول المثل الشعبي “شر البلية ما يضحك”. هذا هو حال قطاع كبير من الناس في دول مختلفة مع فايروس كورونا المستجدّ، حيث راجت السخرية ووجد الناس ضالتهم في ما يمكن أن يسليّهم ويعبّر عن معاناتهم الدرامية بطريقة فكاهية.

لم تعد النكتة قاصرة على شعب بعينه في تدبيجها وترديدها لوصف حاله وأحواله، وسهلت وسائل التواصل الاجتماعي من التعرف على خصائص بعض الشعوب في مجال النكتة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

برع فن الكوميكس مؤخرا في سرد النكت بأنواعها باستخدام الصورة المصحوبة بتعليقات، ويأتي أغالبها ساخرا من توجهات وممارسات حكومات ومسؤولين وشخصيات عامة، وتتم الاستعانة بسلاح المفارقة، كأن تقدم دولة فقيرة مساعدات طبية لدولة غنية، أو يقدم عجوز العون لشاب، أو طفل لكهل، وهذه عينة من النماذج التي حظيت بالسخرية.

ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في رواج النكتة السياسية، وأصبح كل شخص بمثابة جهاز إعلامي في حد ذاته، بما أخرج النكتة من شقها الخفي إلى مربع رحب تراه شريحة كبيرة من الناس، وهي من التطورات التي كسرت محرمات وممانعات إلقاء النكتة السياسية علانية وعدم اقتصارها على الجلسات الخاصة.

الخروج إلى العلن

أزمة كورونا كشفت عن جانب آخر يتعلق بالشجاعة
أزمة كورونا كشفت عن جانب آخر يتعلق بالشجاعة

أنشأت الكثير من أجهزة المخابرات في العالم منذ زمن قطاعا يختص بالنكت، يتتبع مصدرها، غالبا ما يكون مجهولا، ليس لمطاردة المروجين، بل أيضا معرفة جذورها وأهدافها، واتخاذها وسيلة لمعرفة توجهات الرأي العام في هذه الدولة أو تلك حيال النظام الحاكم وأداء الحكومة، أو نحو قرار معيّن جرى اتخاذه والمطلوب قياس تأثيره ومستوى قبوله أو رفضه.

ارتاحت أجهزة المخابرات من هذه المهمة الشاقة ولم تعد بحاجة إلى كتيبة من الموظفين للقيام بها، يكفي شخص واحد أو أكثر لمتابعة منصات التواصل حتى يتم التعرف على مغزى النكتة ومصدرها، وكم شخص اطلع عليها وتجاوب معها، وحدود انتشارها في المجتمع، وحجم التغير الذي طرأ على مزاجه؟ الأمر أصبح واضحا ولا يحتاج إلى جيوش لمعرفة تفاصيل النكتة التي زاد فيها النكد السياسي على حساب الفكاهة.

تعب البعض من الباحثين في أجيال سابقة من عملية جمع النكت وتحليلها، وأنفقوا وقتا ثمينا ليقدموا لنا قاموسا لأهمها وأشهرها وقدرتها على التأثير في العقل الجمعي للمواطنين، وتعرضت دراساتهم لفنون وحيل بعض الرؤساء في متابعة محكوميهم للنكتة، وماذا يقول الناس في غرفهم المغلقة.

تلقى النكتة السياسية رواجا لدى الشعوب التي لا تتمتع بقدر جيد من الحرية، لأنها وليدة الكبت والقهر والظلم وعدم القدرة على التعبير عمّا يجيش في نفوس البشر بأريحية، وأحيانا يطرب بعض الحكام لذلك، ويستريحوا له كنوع من صرف الناس عن ممارسة السياسة مباشرة.

هناك روايات تؤرخ للنكت التي أطلقت في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وتم التعامل معها بجدية كمؤشر لمدى قبول الناس لقراراته، ووضعها بعض معاونيه، مثل صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات الأسبق، ضمن الحروب النفسية والمؤامرات التي تعرض لها نظامه، وذلك للتخفيف من وطأتها ومنع الناس من الانسياق خلفها.

كشفت أزمة كورونا عن جانب آخر يتعلق بالشجاعة وانقضاء الحاجة إلى قنوات سرية لترويج النكتة، فقد امتلك كثيرون الإرادة للتعامل مع الوباء من هذا المنطلق، ولم تعد القضية محصورة في نطاق معارضي نظام الحكم في أي دولة، بل جاءت نسبة كبيرة من النكت التي تجاوب الناس معها بكثافة من قبل مؤيدين له، مصحوبة بالضحكات وليس اللعنات.

إذا كانت التكنولوجيا أنعشت شكل النكتة السياسية بعد دخول الكوميكس على نطاق واسع، فهي أيضا أنعشت مضمونها، لأن توافر كميات كبيرة من الصور والفيديوهات أضاف إليها بعدا ميلودراميا. فلك أن تتخيل عدد “الكليبات” التي قدمها مطربون محترفون، وهو قليل، بينما فاقت أرقام غير المحترفين التوقعات، ويستطيع كل هاو التعبير عن نفسه من خلال الأغنية الساخرة التي تحمل معاني سياسية واجتماعية.

كوميديا الوباء

التطورات المتلاحقة بشأن كورونا فرضت على البعض التوجّه إلى التخفيف منها عبر الإفراط في تفريغ شحنة إنسانية باللجوء إلى صياغة النكت
التطورات المتلاحقة بشأن كورونا فرضت على البعض التوجّه إلى التخفيف منها عبر الإفراط في تفريغ شحنة إنسانية باللجوء إلى صياغة النكت

اصطحب فايروس كورونا الكثير من العادات، مثل الإفراط في نظافة غسل اليدين والخوف من انتقال العدوى، ورغم قسوة المظاهر التي يحملها الوباء، إلا أن البعض حولها إلى نكتة مليئة بالدلالات، وكان للنكتة السياسية نصيب أيضا، فتكفي إذاعة ونشر صور لكبار المسؤولين يضعون على وجوههم كمامات وفي أياديهم قفازات واقية، أو هم في الحجر الصحي، لإطلاق وابل من النكت الساخرة التي لا تخلو من مكونات عميقة.

انتهز المغرمون بالنكت هذه الجائحة وأبدعوا في تقديمها بألوان مختلفة، وانتهزوا فرصة انهماك الحكومات في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحة الوباء، وتفننوا في صياغتها وتسويقها، وارتفع مستوى السخرية بصورة كبيرة في الدول التي تفرض قيودا واسعة على الحريات، وأخرجوا طاقة من الكبت لم يستطيعوا تفريغها من قبل.

وكما أن هناك أغنياء من وراء الحروب، فإن هناك مستفيدين متعددي المشارب في زمن كورونا، من هؤلاء الذين برعوا في التقاط النكتة وأحسنوا الترويج لها في ظل بقاء غالبية سكان الأرض في منازلهم وأعينهم مسلطة على متابعة أخبار الوباء من خلال المواقع الإلكترونية التي شهدت انفجارا كبيرا في أعدادها، من بينها صفحات تولي اهتماما بالنكتة كوسيلة للتخلص من طاقة سلبية كامنة.

تحول الأمر من مزحة تتعلق بالسخرية من شخص أو التعليق على قضية في وقت معين إلى عادة الآن، حيث فرضت التطورات المتلاحقة بشأن كورونا والمآسي التي ترافقه على البعض التوجّه إلى التخفيف منها عبر الإفراط في تفريغ شحنة إنسانية باللجوء إلى صياغة النكت.

إذا كانت التكنولوجيا أنعشت شكل النكتة بعد دخول الكوميكس على نطاق واسع، فهي أيضا أنعشت مضمونها

تعني هذه النتيجة أن النكتة تحولت من السخرية من الآخر إلى السخرية من النفس، فثمة أرقام مهولة من النكت تتعلق بالعزل الصحي وطقوسه التي فرضت أنماطا غريبة علينا لم نكن نتخيلها من قبل، وأصبحت النكتة المنزلية عادة يومية عند البعض، يتفننون في تنويعها ويبدعون في ترويجها، ويختارون أدوات الجذب المناسبة. فهذا يحكي عن عاداته المثيرة مع أولاده، وهذه زوجة لا تبارح المطبخ، وذاك طفل يلهو مع نفسه. وكل حالة تحمل قدرا من التهكم الذي يخرج في شكل سخرية دورية طازجة.

بعد انقضاء الأزمة لن تتوقف سيول النكت، فقد أدى البقاء الطويل في المنازل إلى شيوع تقاليد غير مألوفة للبعض، بينها التحريض على السخرية الذي يعتبر الأب الشرعي لإدمان النكتة السياسية، وإذا أرادت بعض الحكومات تقويض هذا الفضاء ستكون مضطرة إلى إزالة الخطوط الحمراء وإرخاء قبضتها على الحريات أولا. وهذه إحدى مزايا كورونا المتوقعة.

ارتفع مستوى النقد السياسي، وتبددت الكثير من الفجوات بين الحكام والمحكومين وسط الجائحة، وتضخم الاجتراء على المسؤولين علانية، وتلاشت تقريبا الهوة بين القمة والقاعدة بعد أن أخذت منحى مسليا وأصبح الكل في العالم مع كورونا سواء.

14