كوفيد يكسر قالب التعليم

ثمة شكوى تتردد بين أصحاب الأعمال في عالمنا العربي. لا يهمّ طبيعة العمل أو الوظائف التي يوفرونها للمتقدمين. ثمة إجماع لديهم على أن الخريجين الشباب يعانون من قصور في فهمهم للمطلوب. لا شك أن الخريج الجديد بلا خبرة أو بخبرة بسيطة. هذا هو الطبيعي. المؤسسات والشركات والورش هي الأماكن التي تكتسب فيها الخبرات. ويسهل الأمر كثيرا في قطاع الوظائف المكتبية. لا غبار ولا زيوت ولا مكائن. مكتب وشاشة كمبيوتر وتطبيقات.
يكتشف أصحاب الأعمال بعد فترة قصيرة أن الشهادة التي يحملها المتقدم لا تقدم أو تؤخر في طريقة فهمه للمطلوب. البعض، الذي يتمتع بذكاء طبيعي، يلتقط المهمة المطلوبة ويعمل. الآخر الذي يتحزم بزنار الشهادة والاختصاص من دون المحاولة لفهم المطلوب وتعلم أساليبه، يكون مشكلة تحتاج إلى قرار: كم من الوقت تمنحه كي يتعلّم؟ وإذا أدركت أنه لن يتعلّم، ماذا تفعل؟ قرارات تضغط على صاحب العمل نفسيا، لأنه بالنهاية أمام شاب أو شابة بآمال أو أوهام، سيبدو وكأن صاحب العمل هو من يبددها.
هذه حكاية قديمة، ولا نسترسل بالاستنتاج بأن المشكلة استجدت مع تراجع مستويات التعليم في بلادنا. كلما مرّ الوقت الآن، صار من الصعب التوافق بين آليات التعليم وطرقه، وما يتطلبه سوق العمل في العموم. المنهجية التقليدية في التعليم، تدرس التلميذ في المراحل الأولية والطالب في المراحل الثانوية والجامعية، لكنها لا تعلّمه. للدقة، هي تعلّمه كيف يدرس لينجح، ولكن لا تعلّمه كيف يتعلّم.
وصف لي صديق مشهد العمارات السكنية في القاهرة مثلا في الليل. قال “انظر إلى كل هذه الغرف المضيئة، أغلبها أسر تدرس أبناءها أو مدرسون خصوصيون يدرسون تلاميذ وطلبة. هذا هو الجحيم اليومي للأسر والأطفال”.
كمّ هائل من الجهد، ومصاريف كبيرة من الدولة والأسر، وعذاب نفسي للطفل والصبي والصبية. ينجح الابن وتنجح الابنة، ويتخرجان ويذهبان إلى سوق العمل. هناك يواجهان الصدمة الأكبر. المثال المصري ليس الاستثناء، بل يتكرر في كل دولة عربية تقريبا. جمود العملية التعليمية ظاهرة مشخصة منذ عقود في عالمنا العربي، وتحوم من حولها الآراء والمناقشات دون تقديم أفكار بديلة. هي في أحسن الأحوال منهجية صارمة من تدريس المواد في الفصول، وطلبات لا تنتهي من الواجبات البيتية، ثم تحديات مؤلمة لا تتوقف من سلسلة امتحانات واختبارات. ثم إحباط مشترك بين صاحب العمل والخريج المتأمل.
لا نعرف أهو القدر أم شيء كان سيحدث للعملية التعليمية لتصحّح وضعها بآليات ذاتية. لكن الوباء وترتيبات العزلة، والابتعاد عن الفصول الدراسية والمحاضرات المباشرة، والدراسة عن بعد، بل والامتحانات عن بعد، كسرت قالب العملية التعليمية السائدة في عالمنا وفي العالم ككل. اختفاء شبح المدرس والمدرس الخصوصي ومنهجية الحساب والإحساس بالذنب، قد تكون عوامل تحرر التلميذ والطالب وتترك له الفرصة أن يستكشف ويتعلّم، لا أن يدرس ويمتحن. هل يستكشف كتبه أو يستكشف مواضيع مختلفة عبر المناهج المعدة أونلاين وينمّي فضوله في المعرفة، هذا موضوع من المبكر الجزم فيه. لكن كسر القالب يتيح فرصة إعادة النظر والتجريب. ماذا سيحدث أسوأ من أن تتوقف المدارس؟ ها قد توقفت ثم عادت. هذه فرصة استثنائية لإعادة النظر في فكرة التعليم نفسها وإخراجها من جمود الفصل الدراسي والمدرس والمنهج والامتحان.
كوفيد يعلمنا دروسا من نوع مختلف.