كورونا وتكاليف التدريس الخاص يرهقان الأسر المصرية

لجأت الكثير من الأسر المصرية التي يدرس أبناؤها في مدارس خاصة إلى تحويل مسار تعليمهم لأخرى حكومية، لعدم استطاعتهم توفير التكاليف الدراسية المالية في ظل جائحة كورونا، وعدم مراعاة المؤسسات التعليمية للظروف الاقتصادية الصعبة للأهالي.
القاهرة - بعد أن فقدت فئات كثيرة عاملة في القطاع الخاص وظائفها أو أجزاء كبيرة من الرواتب، لم تعد الأسر قادرة على دفع الآلاف من الجنيهات لمدارس أولادها، وأصبح توفير المتطلبات المعيشية على رأس الأولويات مع الحصار المالي المفروض على أولياء الأمور، وتحول التعليم الخاص من رسالة تربوية إلى تجارة رائجة تستغل هروب الأهالي من المؤسسات الحكومية.
وتصر المدارس الخاصة على أن يدفع الآباء تكاليف العام الدراسي الجديد في الوقت الراهن، مع إضافة نسب الزيادة السنوية وتتراوح بين 10 إلى 25 في المئة عن السنة الماضية، ما رد عليه الكثير من الأهالي بسحب أوراق أولادهم وتحويل مسار تعليمهم إلى مدارس حكومية بتكاليف زهيدة.
وعندما سُئل طارق شوقي وزير التربية والتعليم، عن إصرار المدارس على دفع الأسر باقي مستحقات العام الدراسي الذي توقف بسبب ظروف جائحة كورونا، رد بأن “هذا حقهم، طالما أن هناك عقدا بين المدرسة وولي الأمر”، وحالت الأزمات المالية الواقعة على كاهل الآباء بين استكمال مستحقات موسم الدراسة المعطل، ودفع الجديدة قبل موعدها.
ومع أن القانون لا يعطي الحق للمدرسة في الحصول على المقابل المالي قبل شهر سبتمبر من كل عام، لكن تشابك المصالح وانشغال الحكومة في مواجهة جائحة كورونا جعل الأسر في مواجهة خاسرة مع المدارس، فإما الدفع مبكرا، وإما البحث لأبنائهم عن مكان آخر.
صحيح أن وزارة التربية والتعليم، هددت أصحاب المدارس التي تتمسك باستلام المصروفات مبكرا، لكن هذه النبرة استهدفت تبرئة ساحتها أمام الرأي العام، فلم تُعاقب أيّ مدرسة لمخالفتها المعايير التربوية، ما بعث برسائل تهديد للآخرين، ولم تجد الأسر مظلة قانونية حقيقية تحميهم من عبث المدارس بمستقبل أولادهم.
وتراجعت أسر كثيرة، كانت تنوي إلحاق أبنائها بمدارس خاصة، عن الفكرة تحت وقع الأزمة المالية، والخوف من استمرار أزمة كورونا لفترة أطول، قد تصل إلى تعطيل بداية العام الدراسي الجديد، ومن ثم يتم التوسع في نظام التعليم عن بُعد وحينها يتساوى الطلاب (خاص وحكومي) في نفس الخدمة المقدمة.
التوازن في التربية بين الترفيه ووضع الأبناء تحت ضغط، من شأنه أن يحفظ القوام الأسري وقت تبدل الظروف
واضطر محمد مجدي، والد ثلاثة أبناء يتعلمون في مدرسة خاصة منذ الطفولة، إلى سحب أوراقهم وتقديمها إلى أخرى حكومية، بعد أن خسر وظيفته في قطاع السياحة، ولم يعد قادرا على تحمل نحو 640 دولارا لكل واحد منهم، في حين أن زوجته تُعالج من مرض مزمن.
وقال لـ”العرب”، عندما ذهب إلى المدرسة يطلب تأجيل المصروفات حتى بداية الدراسة والعودة إلى وظيفته، رد مسؤولوها بالرفض والتلويح بفصل أولاده، وما زال يواجه صعوبات بالغة في إقناعهم بتحمل ظروفه المادية، لكنهم لم يتقبلوا بعد فكرة تغيير البيئة التعليمية.
ولا ينكر هذا الأربعيني أن سوء نفسية الأبناء أكبر معضلة تواجهها أيّ أسرة تقرر الانسحاب من التعليم الخاص، فكيف يقتنع طفل بأنه سوف يودع زملاءه وأصدقاءه في مدرسته الراقية والنظيفة والمتطورة، ويذهب إلى أخرى أقل في المستوى وتسيطر عليها العشوائية.
وتبلغ كثافة الفصل الواحد في المدرسة الحكومية نحو 80 طالبا، ما يجعل المعلم يفقد السيطرة على الأمور بسبب الفوضى والزحام، في حين أن العدد في القاعة الدراسية بالمؤسسة الخاصة لا يزيد عن 30 طالبا مع تعدد وسائل الرفاهية.
ويشعر الأب الذي لم يعد يستطع توفير احتياجات أولاده في حقل التعليم باليأس والإحباط والعجز، ما ينعكس على مزاج الأسرة بشكل سلبي، وتحدث صدامات بين الزوجين لعدم القدرة على تحمل الوضع الطارئ، لاسيما عندما يكون الاستثمار في تعليم الأبناء هدفا للأسرة.
وروى محمد (ص)، وهو صحافي خسر وظيفته الإضافية في إحدى القنوات الفضائية، أن ظروفه اضطرته للنزول بمستوى ابنه تعليميا وإلحاقه بمدرسة حكومية، حتى فوجئ بأنه (أي الابن) دخل في حالة اكتئاب حادة، استدعت أن يعالجه عند طبيب نفسي.
وحسب القانون المصري، يتطلب تحويل مسار طالب البكالوريا من خاص إلى حكومي أن يقدم الأب ما يثبت تعرضه لكارثة إنسانية تسببت في أن يكون عاجزا عن الوفاء بالتزاماته المالية، وهو شرط يراه معارضون يمنح المدارس الخاصة فرصة لإحراج أولياء الأمور أمام أبنائهم.
وقال محمد لـ”العرب”، إن ابنه هدد بالانتحار أكثر من مرة ودخل في إضراب عن الطعام والشراب، وأنه اضطر كأب إلى بيع ميراثه في الأرض من والده لإعادته إلى مدرسته الأصلية مجددا، حتى لا يتأثر مستواه التعليمي ويعود إلى حالته الطبيعية.

ويرى أكاديميون أن شح موارد الأسرة بشكل مفاجئ قد يكون فرصة لاختبار مدى تحمل الأبناء ظروف الآباء، لكن ذلك يتوقف على نمط التربية وتعويد الصغار على التشارك في المسؤولية وعبور الأزمات الصعبة والقبول بأوضاع العائلة مهما كانت الإمكانيات المادية.
وأكدت أستاذ علم اجتماع الأسرة بجامعة عين شمس في القاهرة هالة منصور، أن أزمة بعض الأهالي تكمن في التعامل مع التعليم الخاص كجزء من الوجاهة الاجتماعية لشراء إعجاب الناس وإحساس أولادهم بأنهم من الفئات المرموقة.
والمعضلة عندما يتسلل ذلك الشعور إلى الأبناء، فتراهم يتذمرون ويتمردون على النزول إلى بيئة تعليمية أقل، بغض النظر عن الظروف الاقتصادية للآباء، في حين أن بإمكانهم التفوق مهما كانت الصعوبات والتحديات والبيئة المدرسية.
ومشكلة هذه النوعية من الأسر، أن أولادها تعودوا على عدم الاحتكاك بأبناء الفئات الأقل ماديا واجتماعيا، وهؤلاء يواجهون تحديات صعبة عند التعرض لأزمات تجبرهم على تغيير مسار تعليم أولادهم للتعايش مع أبناء نفس الطبقة التي ينظرون إليهم على أنهم من الدرجة الثانية.
وأضافت منصور لـ”العرب”، أن التوازن في التربية بين الترفيه ووضع الأبناء تحت ضغط، من شأنه أن يحفظ القوام الأسري وقت تبدل الظروف من اليُسر إلى العُسر، والأهم أن يزرع الآباء في عقول أولادهم أن التميز العلمي لا يرتبط بوفرة المال، بل يُولد من رحم الاجتهاد.
وينحدر معظم أوائل البكالوريا في مصر كل عام، من أبناء الأسر البسيطة التي تحرص على تعليم أبنائها في مدارس حكومية، أيّ أن التربية البعيدة عن التدليل والترفيه المطلق ضرورة حتمية لتجنب وقوع أزمات بين الآباء والأبناء مع أول هزة اقتصادية للأسرة.