كورونا بين بروكسل وبكين

تمددت الصين، بهدوء، في الهواء الأوروبي خلال المفاوضات الصعبة والمعقدة التي لم ينته منها بعد الاتحاد، حول خطة مارشال الجديدة لاحتواء تداعيات كورونا على اقتصاديات دول التكتل.
الثلاثاء 2020/04/28
بكين نجحت في ضعضعة ثبات أعمدة معبد بروكسل

لم يفرح قادة الاتحاد الأوروبي بانتصار الصين على وباء كوفيد – 19، ليس فقط لأنهم كانوا منهمكين بمحاربة الجائحة على أرضهم، وإنما لأن نصر بكين بحد ذاته جعلهم محطّ مقارنة مع الأنظمة الشمولية حول العالم. وجدوا أنفسهم فجأة مطالبين باتباع ذات الطريقة التي استخدمها النظام الشيوعي الصيني مع المرض، وإلا سيُتهمون بالضعف والفشل في إدارة أقسى أزمة واجهتهم بعد الحرب العالمية الثانية.

تراكمت الجثث في بعض دول القارة العجوز وفاحت منها رائحة الإخفاق في مواجهة الوباء. بدا الاتحاد الأوروبي وكأنه على وشك الانهيار والتفكك، بعد أن تخلى أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض خوفا من الجائحة. هنا وجدت الصين فرصة ذهبية لاختراق المنظومة الأوروبية، وأوفدت أطباءها وخبراءها لمساعدة تلك الدول التي تُركت وحيدة لمواجهة مصيرها دون مساندة التكتل ككل، أو دوله فرادى.

نجحت بكين في ضعضعة ثبات أعمدة معبد بروكسل. ليس حكمة وقوة منها فقط، وإنما هشاشة في جذور الوحدة الأوروبية غير المتكافئة في بعض المجالات، وبخاصة الاقتصاد. طافت على السطح مجددا مفاهيم التفرقة والتمييز على أساس الثروة بين دول الشرق والغرب في دول القارة العجوز، وبتنا نسمع عن ألمانيا المستبدة وهولندا الأنانية وإيطاليا الكسولة وإسبانيا الانتهازية وفرنسا الماكرة واليونان الفقيرة.

تمددت الصين، بهدوء، في الهواء الأوروبي خلال المفاوضات الصعبة والمعقدة التي لم ينته منها بعد الاتحاد، حول خطة مارشال الجديدة لاحتواء تداعيات كورونا على اقتصاديات دول التكتل. حضرت الصين على طاولة المفاوضات بلسان الدول التي لا تزال تقارن بين ما قدمته لها بكين، وما قدمته بقية عواصم الاتحاد الأوروبي. وخاصة برلين التي تمثل الدولة القائدة للاتحاد بواقع تفوقها الاقتصادي والمالي والطبي.

رغم كل ذلك لم تنل الهيمنة الصينية من الهيبة الأوروبية في أزمة كورونا لأسباب عدة. أبرزها تلك البراعة التي أظهرتها ألمانيا وبعض دول الاتحاد في التعامل مع محنة الجائحة، دون أن تضطر إلى تقليد النموذج الصيني في سجن مدن بأكملها واعتقال شعب بأكمله داخل المنازل لمواجهة الوباء. قدمت هذه الدول للعالم نموذجا جديدا لإدارة الأزمات يجمع بين الحكمة والقوة والتدبير والعلم والديمقراطية الغربية.

صحيح أن ألمانيا حصنت نفسها أولا من الوباء، ومن ثم التفت إلى مساعدة بقية دول التكتل. ولكن ذلك لا يعني أبدا أنها تخلت عن الاتحاد الأوروبي كي تستمتع الصين بالسيطرة على دوله الواحدة تلو الأخرى. ثمة أولويات كان لا بد للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تتبناها، ومن ثم يأتي دور سد الثغرات وإصلاح العيوب التي ظهرت في التكتل بسبب أزمة تركت آثارها على جميع أقطاب العالم بما فيها الصين.

الاستراتيجية الألمانية في التعامل مع تداعيات الوباء على الاتحاد الأوروبي، وخاصة التسلل الصيني إلى داخله، هي الاستراتيجية التي تبنتها كل دول الاتحاد. بعضها فعل ذلك عن قناعة، وبعضها الآخر كان مرغما. ولكن المهم أن بروكسل عادت تتحدث بلسان واحد مع العالم.

الاستراتيجية الأوروبية في التعامل مع أزمة كورونا تدور حول أربعة محاور رئيسية. الأول هو إثبات قدرة الاتحاد على احتواء الأزمة صحيا واقتصاديا. والثاني تثبيت أسس الاتحاد في الوحدة والمصير المشترك. والثالث فضح حقيقة النموذج الصيني في التعامل مع الجائحة. أما الرابع فيتمثل بالمشاركة في الجهود الدولية لمواجهة تداعيات الوباء التي تحدث في العالم ولكنها قد تنعكس على الاتحاد مستقبلا.

لا تقل أهمية أي محور من المحاور الأربعة عن الآخر، ولا بد لهذه المحاور أن تسير سويا وبالتوازي حتى تلتقي جميعها عند نهاية واحدة تقول إن التكتل الأوروبي رقم صعب بين القوى العالمية. وهذا بحد ذاته يفضي إلى حقيقة أن معادلة القوى الكبرى التي سادت العالم قبل الوباء ليس بالضرورة أن تتغير بعده. وإنما يمكن لهذه القوى أن تتكيف مع متطلبات المرحلة الجديدة الاقتصادية والسياسية والبيئية.

نجح الأوروبيون في تحقيق خطوات مهمة على جميع محاور استراتيجيتهم. وخاصة على صعيد كسر هيمنة الصين للنموذج الناجع في التعامل مع الوباء. حتى أنهم مضوا في ذلك أبعد مما كان متوقعا، مستغلين الحرب الأميركية على بكين بحجة إخفاء حقيقة الوباء عن العالم. استطاع الأوروبيون أن يقلبوا الطاولة على الصين، وجعلوها تستعطف تحالفهم لوقف الزحف الأميركي نحو محاسبة مسؤوليها وكشف تلاعبهم بالعالم في كارثة الجائحة التي كلفت البشرية أكثر من مئتي ألف وفاة حتى الآن.

صحيح أن الأوروبيين أصغوا لبكين وعدلوا تقريرهم الأخير الذي يتهم الصين بإخفاء معلومات حول الجائحة. ولكن ذلك يسجل انتصارا وليس هزيمة لهم. تعرف الصين الآن أن الدخول إلى بيت الأوروبيين ليس يسيرا. وتلك الفاشيّة التي مارستها بكين في محاربة الوباء على أراضيها، ليست اللغة المناسبة للتحدث مع بروكسل.

هناك مقابل ينتظره الأوروبيون من الصينيين نظير تعديل ذلك التقرير. كما أن الرد الأوروبي على محاولة الشيوعية الصينية الهيمنة على دولهم لم ينته بعد. رياح الوباء لم تهدأ بعد، وغبار الجائحة لن ينقشع حتى يتضح تماما ماذا حدث في مدينة ووهان الصينية خلال الشهر الأول من هذه السنة الثقيلة. حتى ذلك الوقت لن تنعم بكين بالراحة، وتلك المشاهد التي تبثها عن عودة الحياة إلى مدنها لن تقنع العالم بأن الأزمة قد انتهت، وانتصرت الأنظمة الشمولية على النماذج الديمقراطية.

9