كوابيس فنان لبناني في لوحات قاتمة

عندما يصبح الواقع لا يطاق يلجأ البشر إلى الخيال المنقذ والقادر إن جمعه اليقين والعزيمة، على أن يقلب الواقع رأسا على عقب.
الخميس 2020/02/06
عالم خرافي قاتم (لوحة للفنان بيترام شلش)

يقال إنه لا توجد جريمة كاملة. فكل مجرم لا بد أن يترك أثرا أو زلة ما تشير إليه ما يؤدي إلى إنصاف الضحية. تنطبق هذه المقولة على لبنان اليوم، وإن بدا ذلك ضربا من ضروب الجنون أمام سلطة متجذّرة في الفساد والطائفية.

من هذا المنطلق بالتحديد تنطبق المقولة كقاعدة قدرية على عالم الخيال الخرافي/ الرمزي الموبوء بمشاهد طبيعة داكنة وجمّة كلوحات الفنان اللبناني بيترام شلش. لوحات منتمية إلى عالم خرافي قاتم يشي بهول الفساد الأبوكاليبتيكي وغياب الإنسانية. إضافة إلى ذلك الطبيعة الخرافية التي جسدها الفنان شديدة الشبه بمساحات الضياع التي هام فيها “طوم” صبي رواية “إصبع الإبهام” الخرافية والشهيرة التي كتبها شارل بيرو.

طبيعة تختصر غابات الإنسانية الجحيمية المشحونة بطاقة ضاغطة ملوثة الهواء وترابا ذا حمرة بنفسجية وحشائش برية، وحجارة وأشواك متناثرة شبيهة بالأسلاك المعدنية التي زرعتها السلطة في وجه ثوار لبنان.

عن غرائبية هذا المشهد اللبناني الذي صوّره الفنان في لوحاته، والذي في ظاهره طبيعة وفي باطنه نقد جارح إلى ما آلت إليه الأمور، قال بيترام شلش إنه يقرأ فيه ثورة لبنانية وشيكة عليه وعلى النباتات الضارة والحية التي تتحرّك وتتمدّد في فراغ العيش السقيم. هكذا “غابة” جهنمية يمكن أن نتخيلها جاعلة من مهمة طوم بطل رواية “إصبع الإبهام” في اختراقها والانتصار عليها هو وإخوته الستة مهمة شبه مستحيلة.

في هذا العالم الذي صوّره الفنان، معظم المجرمين العمالقة يتركون آثار جرائمهم وراءهم دون اكتراث، لأنهم يعتبرون أن أيّ بطل شعبي مهمّ كان عظيما لن يستطيع إبطال حكمهم. غير أن من سيوقع بهم في نهاية القصة “الخرافية” هم صبية عزل يشبهون كثيرا طوم وإخوته (الشعب اللبناني بأسره). صبية أنقياء لامعون عاشوا مثله حياتهم مهمّشين وفقراء ومعنّفين ومظلومين.

هكذا نقرأ اليوم رواية “إصبع الإبهام” في ظل معاصرة غرائبية/ لبنانية ألبست المجرمين كل أنواع الدروع المقيتة، إلّا درع الشجاعة الساحر الذي نجا بفضله طوم وسينجو به اللبنانيون.

باختصار شديد، طوم الصغير، بطل القصة الخرافية، كان هو وإخوته ضحايا أهلهم، ممّا جعل الجريمة بحقهم أكبر من جرائم المتربّصين عن سابق إصرار وتصميم بمصير رعية لا يعتبرون أنهم مسؤولون عن تعاستها.

قرّر والد طوم أن يتخلص هو وزوجته من أبنائهما بتركهم في الغابة حتى لا يموتوا من الجوع. فما كان من الصبي إلّا أن جمع كمية من الحصى ورماها في اليوم التالي خلفه في رحلته مع أهله إلى داخل الغابة الموحشة حتى يستدل بها على طريق العودة إلى المنزل/ الوطن. وهذا ما نجح في فعله.

غير أن المرة الثانية التي أخذ فيها الوالدان طوم وإخوته إلى الغابة لم يتسنّ له من الوقت كي يلمّ الحصى فأخذ شريحة من الخبز وقام بتقطيعها ورميها على طول الطريق. غير أنه لم يفلح هذه المرة في الاستدلال على الطريق لأن العصافير كانت قد أكلت قطع الخبز. غاب الأثر. ولم تغب العزيمة. ليستطيع بها لاحقا أن يخلّص إخوته الستة من الموت والضياع في غابة الوحوش الكاسرة.

طوم لم يكن يملك أسلحة متطورة يهدّد بها ولا علاقات مشبوهة ومشؤومة مع وحوش بعدة رؤوس مدبرة. كل ما ملكه هو عزيمة نقية وحصى تشبه الحصى التي رسمها الفنان الأردني، الفلسطيني محمد العامري، في العديد من لوحاته. حصى عجائبية متحوّلة هي من طحين ملوّن مرصوص حينا ومن قطع خبز مأكول خميرته هي الحصى المرمي على حافة طرقات موحشة، وحينا آخر حصى من كبريت شديد الاشتعال، وألوان صارخة تكتنز ماء ونارا وهواء. قال الفنان وهو شاعر أيضا، في ماهية هذا النوع الخاص من الحجر الذي رسمه في لوحاته “وكنّا نربّي الظلالَ/ على حجر في حديقة/ على درج البيت/ ونرمي بأحلامنا في فراغ النقط”.

عندما يصبح الواقع لا يطاق يلجأ البشر إلى الخيال المنقذ والقادر إن جمعه اليقين والعزيمة، على أن يقلب الواقع رأسا على عقب. تحدثنا القصص الخرافية عن ذلك كما تحدثنا كذلك القصص الواقعية الفجّة التي تخترقها العجيبة المنقذة في اللحظة الحاسمة.

يبدو أن طوم والشعب اللبناني وكذلك الفنان اللبناني بيترام شلش حسموا أمرهم بأن الخيال المقرون بالحقيقة الناصعة لا بد أن يصرع الواقع المر، إذ قال الفنان في معرض حديثه عن فنه بشكل عام “في أحلامي، أعبر وحيدا مكانا موحشا، غير أن الأضواء المنسابة من المدن المدمّرة، والحقول المحروقة، والأشجار المشتعلة، والقلوب الممزقة تهمس لي، ربما، بأن ما أراه هو ليس إلّا بداية ليوم جديد.. لصباح أفضل”.

16