كهوف الليل والنهار

انتشرت قبل عشرين سنة قصيدة على لسان أفغاني هرب من بطش طالبان لينجو بجلده، وليترزّق الله في بلاد العرب الذين اختار أن تكون كلمات قصيدته بلغتهم وبإحدى لهجاتهم العامية، على مذهب سيد درويش الساخر، فقال “أنـا يجي من قندهارْ، شغل هنا ليل ونهارْ. هــذا كفيل وايد بخيلْ، يعطي فلوس وايد قليلْ، أنا يصير مخّي خرابْ، ماكو فكر ماكو حسابْ، أنا يجيـب من طالِبانْ، أفيونْ يبيع بكل مكانْ، شرطي يجي يمسك أنا، سجـن يروح عشرة سنة”!
تختصر هذا القصيدة قصّة الأفغان، وكل جملة فيها تحكي عن سبب من أسباب اللحظة التي هم فيها الآن.
الأنثروبولوجيون يقولون إن الإنسان كان في الماضي كائناً ليلياً، يختبئ في كهفه بالنهار ويخرج إلى الصيد في الليل. مثل باقي الوحوش. وبعد حين اكتشف أن عالم الليل مخيف، وكانت الشمس أقوى مما هي عليه اليوم، فلم يكن قادراً لا هو ولا غيره على البقاء تحتها مثلما يفعل اليوم. ما العمل؟ لم يكن أمامه سوى تغيير نظام حياته. من الليل إلى النهار. ليتملّص من الكائنات التي تصطاد مثله ليلاً، وليصطاد هو تلك الكائنات التي غالباً ما تكون نائمة في النهار. قرّر مواجهة الشمس رغم حرارتها وإشعاعاتها وسطوعها على عينيه البدائيتين.
واليوم ومن كهوف تورا بورا بأفغانستان، خرج الإنسان من الكهف إلى الصيد. فوجد أن الطرائد هي من تريد أن يصطادها أحد، مسلّمة مذعنة مستمتعة. وكان الراعي الأبيض قد درّبها جيداً على أن تبقى تتوق إلى القيود، قيوده هو أو قيود طالبان. ولو أرادت قبيلة همجية في مجاهل أفريقيا، أن تعيش كما تريد، بالعري والبرية وأكل اللحوم النيئة، فلن يمانع أحد. المشكلة حين تريد تلك القبيلة أن تبشّر العالم بطريقتها تلك بالعيش، وإن لم يقبل فستشن عليه الهجمات في كل حين.
جدّنا الإنسان القديم كان لا يصطاد إلا ليأكل. أما المتطرفون فهم يصطادون لأنهم يعتقدون أنهم مأمورون بذلك. ولا يهم مذهبهم بل لا يهم دينهم ولا يهم إن كان لهم دين أم لا، فالعنف هو نهاية التحضّر، لأنه يقوم على إخراس الآخر وطمس شخصيته.
جدّنا الإنسان القديم قرّر مواجهة الشمس، ولم يقل: أريد أن أطفئ عين الشمس بيدي. لكنّ المتطرفين يقولون. والراعي الأبيض يفرّ سريعآً لأنه يريد للمشرق كله أن يتفجّر، بينما ينسى كثير ممن يبتهجون لصعود طالبان أن أباها الروحي في العقدين الماضيين كان قاسم سليماني، وأن أكبر دعم تلقّته كان من فيلق القدس الإيراني وأن نطاق الجحيم قد فُتح اليوم من أفغانستان إلى البحر المتوسط.