كمال هجار يحرر الزمن ليلتقط أوراقه ويعيد صياغتها

خطاب فني يعود إلى التاريخ بشقيه المكاني والتشخيصي.
السبت 2022/04/30
بطولات تشحذ ملكات الإبداع

يدرك الفنان الكردي - العراقي كمال هجار ماضي بني شعبه، فيحمله معه في لوحاته ليبحث فيه ويعيد تشكيله وفق وعي ذاتي وجمعي يحاول مصالحة مآسي الماضي مع الحاضر أو إعادة بلورتها بما ينير العتمة المتوغلة في النفوس ويصنع مستقبلا أكثر تحررا من القيود.

تعرفت على الفنان كمال هجار في السليمانية بكردستان العراق، أثناء مشاركتنا لنشاطات سمبوزيوم السليمانية الثالث الذي عقد في سبتمبر العام الماضي، وحضوره الجميل وإصراره على مواكبته لنا، وتعضدت هذه المعرفة حين جمعتنا معاً جبال كردستان والرحلة الاستطلاعية الجميلة التي قمنا بها معاً، والتي لا تنسى برفقة المشاركين في السمبوزيوم.

دلشاد كويستاني الفنان الذي يستل الفرح من داخلك مهما كنت معتما، وعباس جاور الناقد العراقي المعروف، مع آخرين لم تعد تسعفني ذاكرتي بأسمائهم، لكن ما أعرفه هو أن الواقع كان أشبه بحلم، كما أن الحلم كان حتى بات واقعاً، وما أعرفه أيضا أن الجميع سيوثق تلك الخطوات الزمنية وسيقوم بتسجيل معالمها بأسمائها التاريخية، وسيروي مفرداتها وما تجلى فيها من أجواء عذبة وبأنها كانت لحظات تحتفل بالحياة كما احتفلت الحياة بها.

أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على قراءة أعمال الفنان كمال هجار (1958 السليمانية)، الفنان الذي تتقاطع مختلف الفنون والإبداعات في رحابه، ويخطف الألباب كعلامة على ما يتناوله في أبحاثه التي تساعده على بلورة آراء تساهم في تجديد نظرته إلى الفن ومهمته في هذا العالم، علّه يعطي بذلك دفعاً جديداً لهذه العجلة الفنية.

وفي هذه الحقبة المهمة من الزمن المعاصر يأتيه النشاط بكل تلويناته، ويستمد الضوء من الفضاء الذي تنكشف فيه الأسارير كلها وتعلن عن نفسها صريحة، فهو شجرة مثمرة جداً بثمار كان من المتاح له أن ينتجها بالقدر ذاته من إنتاجه للقيمة الجمالية لها مع أداء إبداعي في بناء حكايتها التي تقول أسرار الوجود، والتي تتشكل بنهوضها وثمارها وهي زاخرة بالحياة، تحمل طعمها في ذاتها وتحيل هذه الذات طواعية لا عنوة أو قهراً إلى فضاءات، وشحنها بدلالاتها المستمدة من ماهيتها ومن تلك المكونات البنائية التي لا يمكن لأي عنصر آخر أن يلغيها.

كمال هجار يستمد الضوء من الفضاء الذي تنكشف فيه الأسارير كلها وتعلن عن نفسها صريحة

وهو فنان يتمتع بقدر عال من الحماس إن كان في اختياراته الدائمة لمشاهده المتخيلة والمتدافعة أو في علاقاته بالواقع والالتصاق الصادق به، وجميعها تسهم في إضفاء المزيد من الحيوية على تجربته المثيرة للقراءة والجدل.

كمال هجار بشكل أو بآخر يحرر الزمن ليلتقط أوراقه ويتناولها بحوارية مزدهرة تستجيب للرغبات النوعية لوعيه والتي تتسع دوائرها كلما غار فيها أكثر، نعم يحرر الزمن تاركاً الريح تبعثر أوراقه، ويقترن هو بمفرداته جاهداً في لملمة تلك الأوراق وإعادة صياغتها من جديد، بالشكل الذي يراه، وهي التي ستشكل في ما بعد مادته الأهم في مشروعه الفني الذي يشتغل عليه، مؤسساً من خلاله لرؤية منفتحة على التاريخ وعلى العالم معاً، وحاملاً لموقف فاعل في الوجود.

هذا التزود المعرفي والثقافي لا بد أنه يرفع من سقف تزوده في الوعي والرؤى، فيمارس بهذا الوعي وبهذه الرؤى تأثيره في نقل مفهوم ملازم لخصوصيته ومحليتها إلى مناطق تتداخل فيها الملامح والسمات بحيث يفضي ذلك إلى خلق حركات غير مؤرقة هي تحولات جدلية فيها تذوب المجاورة، إن كانت بين الأضداد أو بين المعاني المتصالحة معها.

ومن باب ما يقدم عليه هجار من بحث دائم، فهو يصطحب معه التوثيق للوصول إلى حقائق فرضتها ضرورات بحثه، ولهذا وذاك هو شديد الحرص على أن يكون ما يبذله من جهد مكرساً لنتائج جد متميزة؛ فهو في زمنه المعلوم وبلغة جديدة لا بهرجة فيها ولا اتكاء على السرد وحده يعيد إنتاج خطاب فني لا تنداح معه الأسئلة، بل يساعدها على دفع الحركة فيها في اتجاه بحثه هو ويحيلها بدوره إلى اتجاهات أخرى، وإن بقي ثمة سؤال عالق في الإطار تبحث عن إجابات ممكنة في حالة كونها بقيت جزءاً من العمل قد يفضي به إلى مشهد يؤصل مشهده الفني المنشود.

ويدرك الفنان كمال هجار أن لكل جنس إبداعي شرطه التاريخي لولادته، والعمل الفني الذي يشتغل عليه ليس خارج هذا المفهوم، لهذا نراه لا يستصعب الغوص فيه علّه يصل إلى أقصى درجاته، وفي الوقت نفسه يُحْيي المسافة التاريخية فيه بوصفها مسافة تواصلية وتتابعية بها يجتهد تاريخياً ليجري ضمن هذا الفضاء من داخله دون إغفال العامل الذاتي الحواري الذي يعطيه فاعلية نامية باتجاه ما يرسخه وما يميزه.

وليس غريباً أن نرى أن أكثر أعماله يعود بها إلى التاريخ بشقيه المكاني والتشخيصي، حتى أنه في عام 2019 قدم معرضاً كان بانوراما فنية للتاريخ الكردي وعلى نحو أخص المآسي التي هطلت عليه من أنظمة استبدادية والمجازر التي مورست بحقه والتي لا يمكن أن ينساها الإنسان الكردي كقلعة دزه، وقلعة دمدم، وقلعة هولير، وحلبجة، وأنفال، وغير ذلك.

ماض يكرر نفسه فيقيّد الحاضر
ماض يكرر نفسه فيقيّد الحاضر

كما أن الفنان يؤرخ جمالياً لشخصيات باتت معالم تاريخية للكرد، لِما كان لهم ولدورهم في رفض الظلم والنضال لإبعاده ودفاعهم عن حقهم في العيش الكريم كمعظم شعوب المنطقة، كالشيخ سعيد بيران ومولانا خالد وسمكو خاني شيكاك وليلى قاسم وهوزانفان ناري والشيخ عمر برزنجي وملا مصطفى البرزاني والقاضي محمد وبابا طاهر همداني والشيخ محمود الحفيد ومارغريت، وغيرهم.

ولا تنفي معاني هجار والدوافع التي تطفح بين ظاهر ألوانه حضور ما ذكرنا من شخوص وأمكنة بما يومئ بما لا يفنى، وبما يشي بتلك الكآبة التي تتجلى في مشاهده كلها وحيث النحيب يملؤها، وكأنه يقوم بتجاذبات بين الأقطاب مهما كانت متضادة.

في اللحظة التي يبدأ فيها كمال هجار بالرسم تبدأ رغبة عاتية في الخروج من بين أصابعه وهي تنشد إنجاز ما يطمح إليه بهواجسه كلها

وهو لا يتدخل من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً حين يساور العادي ويعمد إلى عملية الغور موظفاً كل رموزه لانتشال ما قد يذوب، ويبحث عن نسق من وجع الإنسان وتشرده في براري الفناء، بل يبحث عن الدم والزمان المسالين على أرض قربت أن تكون خارج جاذبيتها وتسامت نحو السماء ونحو الخلود من كثرة ما عانت في مواجهة العدم ولا معنى الحياة، كرس كل ذلك لا من خلال رموز واقفة في العراء، بل من خلال ارتقاء التراب لتصبح دالة على الخلود وما يطالها من البلى.

وفي اللحظة التي يبدأ فيها كمال هجار بالرسم تبدأ رغبة عاتية في الخروج من بين أصابعه وهي تنشد إنجاز ما يطمح إليه بهواجسه كلها، فالرغبة في المغايرة هي ذاتها التي ستكشف له عن لبابه وصلته بالحياة وصلة الحياة به، فيحاكي التاريخ بكل وجعه وينهض بهذا الوجع لا تكلفاً ولا تصنعاً ولا تحذلقاً به، بل هو يرى نفسه جزءا من هذا الوجع، عاشه بكل جزيئاته وإبره.

ولا يبرح الوجع خياله الذي سيقوم على الدوام بإعادة إنتاجه، وهو على يقين تام بأن من يجهل ماضيه بكل هذا الزخم من الآهات لا يمكن أن يصنع مستقبله، فهو النافذ إلى جوهر الأشياء وصميم حقائقها، وهمه أن يجسدها في شكل ولون أو في ظواهر الأشياء علها تكون عنواناً لدواخلها.

14