كلنا في ذلك الصهريج

في سهرة متأخرة على تلفزيون بغداد، عرض فيلم “المخدوعون”. كانت أعيننا قد ألفت الشاشة الملونة، فبدا غريبا أن نعود إلى فيلم أسود وأبيض، خصوصا وأن السينما العالمية ودّعت الأسود والأبيض منذ عقود. كانت للسوريين أسبابهم، وتركوا توفيق صالح يخرج الفيلم بلا ألوان. الفيلم كان طويلا نسبيا عن رواية كان بوسع كاتب السيناريو أن يختصرها، لكن الفيلم كان صادما للذي شاهده، يعرف أنه مأخوذ عن رواية “رجال في الشمس”. كانت الرواية الأولى للأديب الفلسطيني غسان كنفاني. رواية تلخص الكثير من المآسي.
ملخص الرواية والفيلم هو مصير الأشخاص الذين يحملون آمالهم لعبور الحدود بين العراق والكويت. المراهنة أن يمروا من نقطة الحدود دون تأخير، عبر الاختباء في صهريج الشاحنة. سارت الأمور على ما يرام من الجانب العراقي، لكن موظف الحدود الكويتي كان ثرثارا بما يكفي لأن يعطل مرور الشاحنة. بعد أن يبتعد السائق بما يكفي، يكون الوقت قد تأخر ومات من معه اختناقا بقيظ صحراء العراق والكويت.
ذكّرني زميل بالرواية، فتذكرت الفيلم، لأني قرأت الرواية لاحقا، لكن باسترجاع المشاهد وجدت أن تلك الرواية البسيطة أدبيا، ربما تلخص حالنا اليوم.
كل شخصيات الرواية لها أمثلة من عالم اليوم. أبوقيس الحالم بمال يكسبه من الهجرة. أسعد المهاجر لأسباب سياسية. مروان الشاب الذي يريد الإنفاق على أسرته. ثم المهرب أبوالخيزران صاحب المرارة من تاريخه الشخصي. عالم من المهاجرين يحكمه مهرب وصدف. شيء يشبه أيّ نقطة عبور على البحر المتوسط أو على الأرض بين تركيا وأوروبا، أو الصحراء بين ليبيا وتونس.

لا ينحصر الأمر في أن عالم الهجرة صار مشهدا يوميا لكثيرين منا. المسألة مصيرية وقضية حياة أو موت. ويمكن أن تضيع أعمار البشر في دقائق هي نفسها الدقائق الإضافية الخانقة التي تسببت بموت أبوقيس وأسعد ومروان، فيما يثرثر الموظف الكويتي عن قصة حبه مع الراقصة كوكب.
هل الإسقاط مناسب؟ ربما. ولكن ماذا عن عالمنا اليوم بالمطلق؟ نحن نعيش الاختناق عالميا، ولا مفر من مواجهة حقيقة أن لا أحد يعرف بالضبط منفذا للخروج من
ذلك الصهريج الذي اسمه الكرة الأرضية، ويوما بعد آخر يزداد اكتظاظا ونزداد اختناقا. عندما تسمع ثرثرة القائمين على ما يفترض أنه طرق الخروج من الصهريج، تعرف أننا في ورطة أبوالخيزران المهرب المحتال الكاره للدنيا بسبب عقده الشخصية. الكل يريد حماية البيئة وإنقاذ البشرية وقيادة سيارة فارهة تحرق البنزين بلا حساب والربح من بيع النفط وتأجيل المشكلة طالما جهاز التكييف يعمل في السيارة والبيت ومكان العمل والمول.
يسحب أبوالخيزران الجثث من الصهريج. هناك رحلة تهريب للبشر قادمة وهناك من يدفع لعبور الحدود أو النفط.