كشف
ما الذي يجعل لصور التجريد الفوتوغرافي المعنية بالمشاهد الطبيعية والمدينية أثرا بليغ العمق في نفس الناظر إليها؟ وكيف لها ذاك الحضور الدامغ الذي لا يمكن تجاهله؟ ولماذا يزداد المهتمون بها وبشكل غير مسبوق في السنوات العشر الأخيرة وقد تبناها فنانون كُثر كخطابهم الفني الأوحد منذ منتصف القرن العشرين؟
وفي المُقابل، لماذا ليس للفن التجريدي مهما بلغت تعبيريته نفس الأثر لا من قريب ولا من بعيد؟ أسئلة قد يطرحها الكثير من المهتمين بالفن، وتعد الإجابة عن هذه الأسئلة محاولة لسبر، ليس معنى الصور، بقدر ما هو غوص في معنى الحياة بمعناها المُطلق.
طبعا، لا تنسحب تلك الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها على كل صور التجريد الفوتوغرافي، تنطبق فقط على الناجحة منها، ولكن ما هي الصور التي يُمكن اعتبارها ناجحة و”كيان” الفن هو في دقّة المعادلة ما بين الشخصي والعام؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال الأخير مُرتبطة ارتباطا وثيقا بالأجوبة الخاصة بالأسئلة المطروحة في بداية هذا المقال.
الصور التجريدية الناجحة هي تلك التي أدت مهمتها التي تتعدى الجمالية، وبالتالي ليس من الخطأ القول إن كل صورة فوتوغرافية تجريدية هي ميتافيزيقية قبل أن تكون أي أمر آخر.
إنها صور، تقول لك: بالتأكيد يوجد عالم آخر، عالم ليس هو إلا هذا العالم الذي تعيش فيه، الصورة التجريدية الناجحة حتما تشير إلى قدرة مصورها على أن يطرح تأويله الشخصي للعالم، أو تفصيلا صغيرا من هذا العالم قرر أن يضاعف من حضوره وقيمته عبر استخدام تقنيات لا تقل أهمية، لا بل هي أكثر تعقيدا مما يستخدمه الفنان التشكيلي/التجريدي في لوحته الفنية.
قد يقول البعض إن الفنان التجريدي أو التشكيلي يقدم أيضا أطروحات شخصية في لوحاته، بالتأكيد هو يفعل ذلك والعديد من المصورين للصورة التجريدية قد تأثروا بتيارات فنية تشكيلية أساسية، من تلك التيارات الفنية نذكر “لومينيزم”، أي الضوئية و”المُستقبلية”، فهذه التيارات الفنية غيرت أسلوب النظر إلى العالم الواقعي، دون أن تكون قدمت “نسخة كاذبة” عن الواقع.
ومع ذلك، ما يجعل الصورة الفوتوغرافية أمضى أثرا هو أن مصورها “طبع” جزءًا من الواقع وليس صورة عنه، وإن جاءت هذه الصورة غريبة في عين المُشاهد للوهلة الأولى قبل أن يتعرف على بعض التقنيات التصويرية لا سيما تقنيات التصوير الديجيتالي التي تتيح بسهولة أكبر القبض على المكان كما هو وخاصة على فعل تحرّكه إن كان متحركا، نذكر على سبيل المثال حركة أمواج البحر، أو ثبات المكان وحركة حامل آلة التصوير.
هنا نعود إلى الهنود الحمر ورفضهم أن تلتقط لهم صورة، لأن ذلك بالنسبة لهم بمثابة القبض على أرواحهم، الصور التجريدية للمشاهد وحتى للأشخاص هي الأقدر على الإمساك باللامرئي المختبئ خلف الصورة “الواقعية”، وعلى إثبات هشاشة الاعتماد على محدودية حواسنا ولا سيما حاسة النظر.
ربما لأجل ذلك تعطي الكثير من الصور الفوتوغرافية انطباعا صوفيا يعتمد في أحيان كثيرة على “المينيمالية” وبساطة وهدوء الأشكال وحلولها في بعضها البعض.
من التجارب المهمة في فن التصوير الفوتوغرافي التجريدي تجربة المصورة باتريسيا فولغاريس التي اشتغلت في صورها على ثيمة النسيان والذاكرة الشخصية، خاصة عبر خاصية “البلوور” أو الضبابية وإيلاء أو تضخيم بعض عناصر الصورة على حساب أخرى.
في حين يملك الفن التجريدي أمرا حزينا بشأنه، لأنه يبقى “مفطوما” عن الواقع الذي تغذى من عناصره، تملك الصورة الفوتوغرافية التجريدية، وخاصة المعنية بالمشاهد الطبيعية شيئا من الفرح، لأنها انقشاع للجانب الخفي من الحقيقة، وفي حين يحمل الفن التجريدي في صلبه حسرة التحقق، تحتضن الصورة الفوتوغرافية التجريدية كشفا ما، الكشف عن وجود حقيقة أقل وحشية مما نستيقظ عليه كل صباح.
ناقدة لبنانية