كريم خان ثعلب محاماة يتسلم مقاليد "الجنايات الدولية"

في الـ16 من يونيو الجاري، أدى كريم أحمد خان اليمين الدستورية إعلانا عن توليه رسميا ولمدة تسع سنوات رئاسة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ليكون بذلك الرئيس الثالث في هذا المنصب منذ تأسيس المحكمة في العام 2002 بعد الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو والغامبية فاتو بنسودا.
وخان الذي ولد في مارس 1970 بأدنبرة، وسط أسرة من أصول باكستانية، محام متخصص في جميع مجالات القانون الدولي العام والقانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان وقانون الرياضة والتحكيم الدولي وتسليم المجرمين وقانون الإعلام وقضايا الاحتيال التجاري الكبرى، وكان يعمل لصالح الدول والأفراد ومجموعات الضحايا. وسبق له العمل في منصب كبير وهو مدعي عام التاج الملكي ضمن اللجنة القانونية في إنجلترا وويلز، وفي مكتب المدعي العام في المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغسلافيا السابقة ورواندا التابعتين للأمم المتحدة.
محكمة ضد الدول الفقيرة

◄ سيكون على المدعي العام الجديد خان أن يتجاوز شبهات التسييس المتعمد للقضايا من قبل سلفيه أوكامبو وبنسودا، ومحاولات جعل المحكمة سيفا مسلطا لتصفية الحسابات السياسية
عند تسلمه منصبه الجديد قال خان “إن الأولوية بالنسبة إليّ، وأعتقد أن هذا هو مبدأ نظام روما الأساسي، ليس التركيز كثيرًا على مكان إجراء المحاكمات، ولكن لضمان السعي لتحقيق المساءلة والتغلغل في التصدي للإفلات من العقاب”، في إشارة إلى المعاهدة التي أسست المحكمة، معتبرا أن “لاهاي نفسها يجب أن تكون مدينة الملاذ الأخير، وحيثما أمكن، يجب أن نحاول إجراء تجارب في البلد أو في المنطقة”.
وأكد خان أنه يريد العمل مع دول ليست من بين الدول الأعضاء في المحكمة البالغ عددها 123 دولة لتحقيق العدالة، حيث أن القوى العالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين ليست أعضاء ولا تعترف باختصاص المحكمة، وهو ما جعل محكمة الجنايات الدولية موجهة بالأساس إلى الدول الفقيرة أو المستضعفة ولاسيما الأفريقية والعربية منها. يقول خان إنه “مقتنع بإمكانية إيجاد أرضية مشتركة وبحتمية ضمان القضاء على الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”.
وتعود فكرة تأسيس محكمة الجنايات الدولية إلى محكمة نورنبيرغ النازية ونظيرتها في طوكيو التي تأسست للنظر في الجرائم التي اتهمت بها الأطراف التي خسرت الحرب العالمية الثانية. حيث قامت لجنة خاصة بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقديم مسودّتين لنظام المحكمة الجنائية في مطلع الخمسينات، لكنه حفظ على الرف تحت وطأة الحرب الباردة التي جعلت تأسيس المحكمة من الناحية السياسية أمراً غير واقعي.
وفي العام 1989 سعت دولة ترينيداد وتوباغو الصغيرة الواقعة في جنوب البحر الكاريبي، على بعد 11 كيلومتراً من فينزويلا، إلى إحياء الفكرة عندما اقترحت إنشاء محكمة دائمة للنظر في تجارة المخدرات. وأثناء ذلك تشكلت المحكمة الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا، وأخرى خاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا، كل ذلك دفع بمزيد من الجهود لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية ، إثر ذلك أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع القرار بأغلبية 130 صوتاً مقابل 7، وهي أميركا، إسرائيل، الصين، العراق، قطر، ليبيا، اليمن، وامتناع 21 عن التصويت، وقد تحول القانون إلى معاهدة ملزمة مع توقيع الدولة رقم 60 ومصادقتها عليه، وهو الحدث الذي تم الاحتفال به في الـ11 من أبريل 2002، لتظهر المحكمة رسميا إلى الوجود في الأول من يوليو من العام ذاته على ألا يكون لها الحق في فض النزاعات التي سبقت تأسيسها.
ومنذ بدء نشاطها أصدرت المحكمة قرارات إدانة بحق 5 رجال بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، جميعهم من قادة الميليشيات في أفريقيا من الكونغو الديمقراطية ومالي وأوغندا. وراوحت الأحكام الصادرة بالحبس بين 9 سنوات و30 سنة، وأسقط المدّعون ثلاثة قضايا رئيسية على الأقل، وأخفقوا في جمع الأدلة في قضايا أخرى بما يكفي للمضي قدما في إجراءات المحاكمة.
سيكون على المدعي العام الجديد خان أن يتجاوز شبهات التسييس المتعمد للقضايا من قبل سلفيه أوكامبو وبنسودا، ومحاولات جعل المحكمة سيفا مسلطا لتصفية الحسابات السياسية، وما يتصل بذلك من شبهات فساد عبر العلاقة ببعض الأطراف الفاعلة كعلاقات المدعييْن السابقين بقطر، وعجز المحكمة عن مواجهة القوى الكبرى وهو ما أدى في نوفمبر 2016 إلى انسحاب روسيا من اتفاقية روما، والذي انتقدته الولايات المتحدة آنذاك، أما إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب فقد فرضت عقوبات على أعضاء من المحكمة في العام 2019 نتيجة الإعلان عن فتح تحقيق حول جرائم جنود أميركيين في أفغانستان، تلتها عقوبات أخرى في سبتمبر 2020 تضمنت تجميد الأرصدة ومنع الدخول، قبل أن تقرر إدارة الرئيس بايدن رفع تلك العقوبات في أبريل الماضي.
شبهات التسييس

◄ خان لديه اطلاع واسع على القضايا الأفريقية والعربية، وهو معروف بقراءته السياسية العميقة للقضايا المطروحة، لكن تاريخ مرافعاته عن عدد كبير من القادة السياسيين الإشكاليين سيجعله وفق القانون غير قادر على التدخل في ملفاتهم.
وبعد توديعها منصبها قالت بنسودا إن “هناك محاولات من كل جانب وكل زاوية لتسييس تصرفات المدعي العام”. وهو أمر بات واضحا، وقد تورطت فيه بنسودا ذاتها، ولاسيما في الملف الليبي عندما تجاهلت جرائم الميلشيات والجماعات الإرهابية التي عبثت بالبلاد منذ العام 2011 وتسببت في مقتل الآلاف من المدنيين وفي إهدار ثروات طائلة وتهجير مدن وقرى كاملة من سكانها كما حدث لتاورغاء، ولم تتمسك سوى بملاحقة سيف الاسلام القذافي بدوافع سياسية أبرزها العمل على تنفيذ هدف خصومه بإقصائه من المشهد السياسي، وقد يكون من عبث الأقدار أن المدعي العام الجديد هو الذي كان إلى وقت قريب محاميا يدافع بشراسة عن ابن الزعيم الليبي الراحل، وقد رافع عنه في سياقات الطعن أمام المحكمة في العام 2018.
وكانت بنسودا قد أوضحت أن هناك “عدم توافق خطير” بين ما يحتاجه مكتب المدعي العام للقيام بعمله وبين ما يحصل عليه من الدول الأعضاء في المحكمة، وهو ما يشير إلى طبيعة الصراع الذي تقوده المصالح والحسابات تحت سقف القضاء الدولي، لكن المدعي العام الجديد كان واقعيا بقوله “لا يمكننا الاستثمار كثيرًا. لا يمكننا رفع سقف التوقعات والاكتفاء بتحقيق القليل في كثير من الأحيان في قاعة المحكمة”، فوفق أغلب المراقبين تفتقد المحكمة إلى آليات حقيقية تمكّنها من القيام بدورها والنفاذ إلى الملفات الكبرى التي تتستر عليها القوى الكبرى، وحتى ما ذكرته بنسودا من فتح تحقيق في جرائم إسرائيلية ضد الفلسطينيين يصطدم بأن لا صلاحيات لها في ذلك كون إسرائيل لم توقع على قرار إنشاء المحكمة وليست من بين الدول المعترفة بدورها.
وفيما يرى أولئك المراقبون أن خان سيسير عكس سابقته في عدد من الملفات الشائكة، يشيرون إلى أن المحكمة مقبلة على تحديات حقيقية لمصداقيتها بعد الانتقادات الواسعة الموجهة إليها، وبقاء سلطتها القضائية ضمن حيز المرغوب سياسيا من قوى مستفيدة منه، والفشل في طرق الملفات الحارقة رغم الإشارة إليها أحيانا كما هو الشأن بالنسبة إلى الحالتين الأفغانية والفلسطينية، حيث أن منطق العدالة لا يمتلك أدوات المواجهة أمام منطق القوة على الصعيد العالمي، إلى جانب حاجتها الماسة إلى تطبيق نحو 400 توصية، خرج بها تقرير تحقيق لجنة خبراء السنة الماضية لتحسين أدائها، ومن ذلك توفير جو عمل يخلو من الخوف وانعدام الثقة بين موظفيها، ومجابهة ثقافة التسلط والتنمّر والتحرّش الجنسي وهدر الموارد وغيرها.
وكان خان قد دافع عن موكلين في المحاكم الدولية بمن فيهم الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور ونائب الرئيس الكيني ويليام روتو، ونجح في إسقاط التهم الموجهة إلى روتو والرئيس أوهورو كينياتا بالتورط في أعمال عنف دامية بعد الانتخابات في بلادهم.
المفضّل لدى الزبائن
لدى خان أكثر من 25 عامًا من الخبرة المهنية كمحام في القانون الجنائي الدولي ومحامي حقوق الإنسان، وهو يتمتع بخبرة واسعة كمدع عام ومحام للضحية ومحام دفاع في المحاكم الجنائية المحلية والدولية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر المحكمة الجنائية الدولية ذاتها، والمحكمة الجنائية لرواندا والمحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة والدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا والمحكمة الخاصة بلبنان والمحكمة الخاصة بسيراليون. وقد مثل محاميا أمام محكمة العدل الدولية. كما مثّل ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في أفريقيا وآسيا، بما في ذلك المثول أمام محاكم عسكرية.
وتم انتخابه ليكون ثاني رئيس لنقابة المحامين في غرفة التجارة الدولية في يوليو 2017 وهو سفير عالمي لنقابة المحامين الأفارقة. ونشر عددًا من النصوص الرائدة حول القانون الجنائي الدولي، ويوضع اسمه في صدارة المتخصصين في مجال القانون الجنائي الدولي، ويقال عنه “لقد أصبحت قدرته على معالجة أكثر التحليلات القانونية تعقيدًا وتلخيصها بكلمات موجزة لكنها قوية أسطورية”، و”إنه بليغ والزبائن يحبونه”.
بالمقابل هناك من يرى فيه محامي الشيطان الذي غالبا ما يحقق أهدافه، لكنه يبقى ”ثعلب المحاماة“ الذي انتسب إلى مهنته بولع وعشق جنونيين، وحصل على شهادة البكالوريوس في القانون مع مرتبة الشرف من كلية الملك جورج بجامعة لندن، ثم وعلى امتداد مسيرته القانونية، شارك في مواقع تباينت بين ممثل للادعاء وممثل للدفاع ومستشار قانوني للضحايا، وحظي بمنصب المدّعي العام في الجولة الثانية من التصويت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بدعم من 72 دولة، أي بعشر دول أكثر من الـ62 دولة المطلوبة لتأمين فوزه.
وأضاف خان أن “الجرائم المرتكبة ضد المجتمع الإيزيدي تمثل بعضا من أكثر أعمال العنف وحشية وانتشارا التي ارتكبها داعش ضد شعب العراق”، وأشار إلى أن داعش كان يخيّر السكان بين تغيير الديانة أو الموت، وقد قُتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال لأسباب متعلقة بهذه المهلة. وتابع “البعض اصطحب لمواقع حيث قُتل بالرشاشات، البعض الآخر فرّ وقُتل فيما بعد. وأولئك الذين فرّوا ووجدوا ملجأ في جبل سنجار ماتوا بسبب ملاحقة داعش”، وإضافة إلى ذلك تم استعباد الآلاف واختطاف النساء والأطفال من عائلاتهم وتعرضهم لأقصى الانتهاكات، بما في ذلك الاغتصاب المتسلسل وغيره من أشكال العنف الجنسي غير المحتمل.ويبدو أن لدى المدعي العام الجديد لمحكمة الجنايات الدولية، اطّلاعا كافيا على أغلب الملفات المهمة المطروحة دوليا، فقد قاد منذ العام 2018 فريقًا تابعًا للأمم المتحدة يحقق في الفظائع في العراق، وأخبر مجلس الأمن في مايو الماضي أنه اكتشف “دليلًا واضحًا ومقنعًا” على أن متطرفي داعش ارتكبوا إبادة جماعية ضد الأقلية الإيزيدية في عام 2014، وقال حينها “أستطيع أن أعلن أنه بناء على تحقيقات مستقلة ونزيهة تمتثل للمعايير الدولية وأفضل ممارسات الأمم المتحدة أن ثمة أدلة واضحة ومقنعة على أن الجرائم ضد الإيزيديين تشكل بوضوح إبادة جماعية. وبشكل أكثر تحديدا حددنا مرتكبي جرائم محددة يتحملون بوضوح المسؤولية عن جريمة الإبادة الجماعية ضد المجتمع الإيزيدي”.
أخيراً فإن لخان إطلاعا واسعا على القضايا الأفريقية والعربية وعلى الملفات المتعلقة بدول شرق أوروبا، وهو معروف بقراءته السياسية العميقة للقضايا القانونية المطروحة، لكن تاريخ مرافعاته عن عدد كبير من القادة السياسيين سيجعله وفق القانون غير قادر على التدخل في ملفاتهم أمام الجنايات الدولية في حالة إعادة فتحها أو النظر فيها، ومن حقه فقط الاكتفاء بتوكيل من ينوبه في ذلك.