"كريستال": دراما واقعية عن ثنائيتي المخدرات والفقر في المجتمع العراقي

“الدراما هي مرآة الواقع”، هكذا يرى العديد من المخرجين والممثلين، وفي مسلسل “كريستال: بداية النهاية” كانت الدراما بالفعل انعكاسا لواقع العراق الذي انتشر مخدر الكريستال بين شبابه وبات يهدد توازن المجتمع. ويقدم المسلسل معالجة درامية لهذه الظاهرة مركزا على بطولات جهاز مكافحة المخدرات والصعوبات التي تواجهه.
انشغلت الدراما العراقية هذا العام بقضايا المجتمع، وفي مقدمتها مشكلات العلاقات الأسرية والفساد وتجارة المخدرات التي تحضر في أكثر من عمل درامي وفي مقدمتها تجارة مخدر الكريستال الذي ينخر المجتمع ويهلك شبابه.
ومن هذه الأعمال مسلسل “كريستال: بداية النهاية” أو “كرستال” كما تتداول العبارة في العراق، وهو أحد إنتاجات الحكومة العراقية التي تبنت منذ مطلع العام الماضي مشروعا لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني يهدف إلى دعم الإنتاج الفني والدرامي وتعزيز حضور المسلسلات العراقية ضمن المشهد الدرامي العربي، عبر طرحها مواضيع محلية بمعالجة تسعى لمواكبة التطور بصناعة الدراما في المنطقة.
والمسلسل الذي يمكن تصنيفه ضمن الدراما الاجتماعية هو من إخراج محمد جعفر وكتب قصته والسيناريو والحوار الخاص به محمد خماس، وتشارك فيه كوكبة من أهم نجوم التمثيل في العراق بينهم ميمون الخالدي، سنان العزاوي، بهاء خيون، علي السمير، مصطفى الربيعي، شاهندة وهند طالب وآخرون.
آفة المجتمع
دراما تنتصر لبطولات جهاز مكافحة المخدرات الذي كافح ومازال يكافح من أجل عراق يخلو من المخدرات رغم كل العراقيل
“إلى أرواح جادت بأنفسها وروت دماؤها الزكية تراب الوطن..إلى أبطال مكافحة المخدرات الساهرين من أجل عراق خال من السموم..إلى كل الضمائر الشريفة التي تطارد الظلاميين العابثين بأمن وطننا…نهدي هذا الجهد الفني المتواضع عرفانا منا نحن أسرة المسلسل لما قدموا ويقدمون من تضحيات عظيمة”.
هكذا قدم صناع المسلسل، عملهم، موضحين منذ البداية أنه دراما تنتصر لبطولات جهاز مكافحة المخدرات الذي كافح ومازال يكافح من أجل عراق يخلو من المخدرات، رغم كل العراقيل والدسائس والمخططات التي جعلت من تجارة المخدرات وتداولها إحدى أكثر أنواع التجارة غير القانونية انتشارا في العراق، وارتباطا بها انتشر القتل والموت والخراب.
يدور المسلسل الذي يأتي في عشرين حلقة حول حكايات جماعية وفردية، متصلة ومنفصلة، تجتمع كلها في بلد يواجه فيه الشباب ويلات العنف والبطالة والفقر والتهميش، وتواجه فيه النساء القهر والظلم والضعف، ما يدفعهم جميعا للارتماء في أحضان أي شعلة أمل تمنحهم قوة وقتية، ومالا يحميهم من العوز، واستقرارا نفسيا ومعنويا وماديا كاذبا، وإن كانت تلك الشعلة لهيبا حارقا لا يستطيعون الهروب منه إلا بالفناء والموت.
إنها حكايات واقعية، فبعيدا عن كواليس الجهود الأمنية في تتبع عصابات المخدرات والكشف عنها، ركز العمل على حكايات كثيرة، منها ما قد يجد فيها المشاهد شبها به وبتفاصيل حياته، كالفتى العاجز عن مداواة والدته والذي يمنعه فقره وجهله من توفير الأموال اللازمة لعلاجها، والمرأة المحرومة من طفلتها والعاجزة عن افتكاك حضانتها ومواجهة طليقها، والفتيات اللواتي عانين من عمالة الأطفال واختلطن بالمجتمع قبل أن يشتد عودهن وتعرضن للاستغلال وللابتزاز حتى سقطن في تجارة الكريستال، وحتى حكاية من يذهب إلى عالم المخدرات والتجارة فيها دون أسباب تشفع له، بل هو بإرادته يبحث عن نفوذ وقوة، وغيرها من القصص التي منحت العمل شحنة من العواطف من شأنها تعزيز العقد الدرامية.
من بغداد إلى البصرة، وفي كل شبر من البلاد، يصور لنا العمل الدرامي كيف أن مخدر “الكريستال ميث” أو “الكريستال الأبيض”، ينتشر بين الشباب، يباع ويشترى بعيدا عن أعين الأمن، يروج داخل المقاهي وفي مراكز التجميل النسائية وحتى في محلات بيع الورود والمشاتل، ويسلط الضوء على كواليس العمل ضمن هذه العصابات، وكواليس الصناعة وكيف تتم بعيدا عن الأنظار، وتتخذ لها مخازن في مزارع ومناطق نائية.
كلهم بمختلف قصصهم ينطبق عليهم قول عالم الاجتماعي علي الوردي أن “الإنسان يبحث عن تقدير المجتمع؛ فإن كان المجتمع يقدّر رجال الدين كثُر المتدينون، وإن كان المجتمع يقدر اللص كثُر اللصوص”.
ومخدر الكريستال هو في الأساس منشط ابتكره اليابانيون واستخدموه خلال الحرب العالمية الثانية لإبقاء الجنود في حالة يقظة لساعات طويلة، ويؤدي الإدمان عليه إلى تدمير جهاز المناعة، وقد يؤدي إلى الوفاة بسبب فشل القلب أو الفشل الكلوي أو الهبوط الحاد في الوزن، أو أيضا بسبب جرعة زائدة.
وهو من أخطر أنواع المخدرات المتداولة في العراق، ويشكل تعاطيه آفة خطيرة اخترقت أركان المجتمع خلال العقد الأخير، ويأتي على شكل مسحوق بلوري أبيض يشبه الزجاج أو الثلج عديم الرائحة، يذوب بالماء والكحول بسهولة، وهو من المخدرات التي تسبب الإدمان السريع.
تجربة درامية مختلفة
منذ عنوان المسلسل، ندرك أننا أمام عمل يبشر بنهاية أمر ما، سرعان ما يتجلى أمامنا أنه يبشر بنهاية تجارة مخدر الكريستال في العراق، وهو اختيار يبدو موفقا، لعتبة نستشف من خلالها لمحة عامة وسريعة عن العمل، تنجح في استفزاز المشاهد وتشويقه لمتابعة المسلسل وفهم أي النهايات تلك.
ثم تأتي الشارة الموسيقية، التي عززتها الموسيقى التصويرية المعتمدة في ثنايا الحلقات والمشاهد لتجذب انتباه المتفرجين، وهي شارة من ألحان وغناء كرار صلاح وكلمات علي العايد، اللذان يمكن القول إنهما نجحا في اختيار الكلمات المناسبة واللحن المناسب للتعبير عن ثيمة العمل الدرامي وتفكيك خبايا شخوصه وصراعاتهم النفسية العميقة، وتوضيح رسالة العمل أن “الوجه الثاني من الدنيا، عالم ثاني ومظلوم.. نتعارك على مود الدنيا وهي مو أكثر من يوم”.
بين السبع، زعيم العصابة، ورحيم، ذراعه اليمين، وطه، المقدم الذي خاطر بحياته لكشف العصابة وترافة، صاحبة الصالون النسائي التي اختارت مساعدة الأمن وشخوص أخرى تقاطعت حكاياتها وتنافست على البقاء، حملنا المسلسل بكادرات أغلبها مغلقة وأخرى منفتحة على أزقة شعبية فقيرة في بغداد، في رحلة نحو عالم واقعي، بنسق ثابت وبزمن درامي يسير على وتيرة هادئة تكاد تسقط في الرتابة وتسبب للمشاهد حالة من الملل، وهي رتابة يمكن أن تكون في الحقيقة قريبة من رتابة العاملين في هذه التجارة الممنوعة الذين يعتمدون حول العالم أسلوبا متشابها أساسه العمل بهدوء وبسرية مطلقة، دون ارتباك أو انفعال لأي مشكل أو طارئ.
وحظيت أغلب الشخصيات في المسلسل بمساحة مهمة من الزمن الدرامي، تمنحها المجال الكافي للتعبير والأداء والتدخل في مسار الأحداث، سواء كانت شخصية ثانوية أو رئيسية، إلا أن الحضور الأكبر في أغلب الحلقات كان لمشاهد قوات الأمن ولشخصية رحيم (بهاء خيون)، ذراع السبع الأيمن، والذي يدير شبكة الاتجار بالمخدرات في بغداد، واستطاع هذا الممثل أن يتحول بأداءه المقنع إلى رجل هادئ، داهية، لا يرحم، ولا يسمح بخرق قواعد العمل ضمن المافيا، دون كشف لنقاط ضعفه ولحياته الشخصية.
"كرستال" عمل مختلف وجديد مقارنة بما طرحته الدراما العراقية خلال السنوات الماضية وهو عمل هادف صور في ظروف استثنائية تسابق الزمن من أجل عرضه في الماراثون الرمضاني
المتابع للعمل، من السهل أن يلاحظ ارتباكا على مستوى الحوار بين الشخصيات، وضعفا في اختيار التعبيرات المناسبة أحيانا، في المقابل أبدى المخرج محمد جعفر والمؤلف محمد خماس قدرة على تصوير عالم المافيا والتركيز على قواعدها وقوانينها الخاصة التي تشبه إلى حد بعيد التنظيم العسكري دقة وصرامة، وتسعى في أهدافها البعيدة إلى خدمة القائد، وعلى رأس تلك القواعد تأتي قاعدة «الصمت» التي تمنع إفادة الشرطة بالجريمة أو مرتكبها، وقاعدة “الموت” لكل من يخون عصابة ويشتغل لصالح منافسيها.
ويظل نسق العمل بطيئا، ويتصاعد جزئيا إلى ينفجر حين يقتل رحيم من أحد أعوانه، في تلك الأثناء يكون المقدم عمار (مصطفى الربيعي) قد نجح في اختراق بيت السبع بهوية مزيفة.
يظن طه/ المقدم عمار أن الحيلة انطلت على السبع، في حين أن زعيم العصابة كان يعرف طوال الوقت أنه المقدم عمار، الذي زرع نفسه وسطهم كي يوقع بهم، وظل يماطله مستثمرا وجوده بينهم لتأمين أنفسهم من أي مداهمات أمنية مفاجئة، إلى حين أمر بقتله وتغيير مكان إقامتهم واستلامهم البضاعة، لكنه ينجح في تغيير المخطط والإيقاع بهم وكشف أغلب العاملين في شبكة السبع.
قد تبدو النهاية وردية ومتفائلة كثيرا، على عكس الواقع الذي يصعب فيه القضاء على زعماء العصابات ومن يعملون تحت سلطتهم في الآن نفسه، لكنها نهاية قد تبدو مبررة تمنح بعض الأمل لعراق ينزف ويأن تحت آفة المخدرات ويحلم بحماية أبناءه منها.
لكن كاميرا المخرج لا تنسى أن تسلط الضوء على بعض من نجا من شباك الأمن العراقي في إحالة جزئية على أن نهاية العمل تظل مفتوحة، كما هي محاربة تجارة المخدرات في العراق التي تعجز السلطات على إنهاءها كليا، فكلما وضع حدا لإحدى الخلايا النشطة، ظهرت بؤر أخرى أشد فتكا بالمجتمع من الأولى.
ورغم بعض الهنات على مستوى السيناريو والحوار، يمكن القول إن “كرستال” عمل مختلف وجديد مقارنة بما طرحته الدراما العراقية خلال السنوات الماضية، وهو عمل هادف، صور في ظروف استثنائية تسابق الزمن من أجل عرضه في الماراثون الرمضاني للعام 2024، عمل ينطلق من الواقع ومن قصص قريبة من الفرد العراقي لينذره بخطورة ما يدور في المجتمع ويعلمه كيف يمكن أن يحمي نفسه وأبناءه وكل الشباب المحيطين به من الوقوع في شباك المخدرات وتجارها. لذلك نجح المخرج محمد جعفر في تحقيق متابعة جماهيرية وإشادات واسعة ممن يطمحون بالفعل لتطور الدراما العراقية وقربها أكثر من القضايا المحلية التي قد تمكنها معالجتها برؤى إخراجية محترفة من المنافسة عربيا.