كرم سريدار.. وداعا

وداعا يا كرم، يا ابن التسامح والمحبة والثقة والنجاح. كلماتك "هللو عمو" ستبقى ترن بأذني. لا تعرف كم أدميت قلوبنا برحيلك.
الخميس 2024/01/18
كان شعلة حركة

كنت أعتقد أنني، وبدافع من محبة أبيه وأسرته، من التقط مبكرا نباهة ذلك الشاب العراقي الذي تقدح عينه ذكاء. كانت سنوات طويلة قد مرت منذ أن تعرفت على أسرة الشهيد كرم سريدار، قبل أن تبادر صحيفة فاينانشيال تايمز عام 2013 بإجراء مقابلة معه. كان عمره 26 عاما في حينها، وكانت كلماته عن العمل وتأسيس فرص للشباب في العراق المهدم بالحروب والصراعات الأهلية تروي مسبقا قصص نجاحه اللاحقة. لا أعرف تحديدا كم بيتا عراقيا اليوم به تلفزيونات الريان أو طباخات أو ثلاجات أو أجهزة تكييف مما تنتجه الشركة التي أسسها كرم مع أبيه. كان شعلة حركة في الانتقال بين بغداد والبصرة وأربيل، ودبي وإلى الشرق البعيد في الصين وكوريا، وهو ابن الموصل بكل ما تحمله المدينة من تراث مخلص للعمل وروح الاجتهاد، ومن ثقافة مسالمة تربى عليها في كنف أب وأمّ لم تشغلهما تغيرات العراق العديدة والانتقال إلى بريطانيا بحثا عن الأمان لأولادهما عن الحضور الأسبوعي لقداس ليلة الأحد.

تعرفت على الأسرة في لندن عام 1991. كانوا للتو قد غادروا العراق بعد حرب الكويت. أرادت الأسرة أن يستمر أطفالها في متابعة منهاج المدارس العراقية أملا في عودة قريبة ما أن تستقر الأمور. كان كرم طفلا صغيرا ووقفنا أنا ووالده وأخته الكبرى وصديق العائلة وابنته أمام باب المدرسة العراقية في لندن حيث كنت قد تطوعت للتدريس سدا لفراغات تركها مدرسون عادوا إلى العراق أثناء أزمة الكويت. سجلوا الأطفال وأخذوا كتب المنهج وعادوا إلى شمال إنجلترا حيث يقيمون في حينها. ومن يومها لم تنقطع حبال الصداقة. هذه السنوات الطويلة كانت بكل صعوباتها ومشاكلها من أفضل سنين الصداقة والأخوّة مع نشأت سريدار، والد كرم، وأسرته. شهدنا سوية كيف تحول ذلك الطفل الأشقر الذكي، من صبي إلى شاب إلى رجل أعمال شاب إلى واحد من رموز الأمل في العراق ما بعد حرب 2003.

أسرة مسالمة ومحبة ولا تتوقف عن فعل الخير، ولا تعرف وأنت صديق لها، إلا أن تجاريها كرما ورفعة في الذوق والأخلاق. لا أذكر كم من مرة هبوا لمساعدتي ومساعدة غيري، وكم من الناس الطيبين التقيت بهم عن طريقهم، أو كم بيتا مفتوحا اليوم في العراق وخارجه بحكم ما أسسوا له من أعمال ومؤسسات خيرية وإنسانية. وكان كرم هو جوهرة هذه الأسرة، وطاقتها التي لا تنضب.

وقع علينا خبر استشهاد كرم في هجوم صاروخي غادر على أربيل وقوع الصاعقة. لم يكن كرم ابن أسرته الصغيرة فقط، بل ابن عدد لا يحصى من المهاجرين العراقيين ممن وجدوا فيه ضالتهم في أن يكون أولادهم مثله بالنجاح والثقة ورفعة الأخلاق. وهو ابن العراق الذي عاد للبناء رغم المخاطر، بل رغم التحذيرات التي سمعها من كثيرين شهدوا كيف يمكن أن تغدر بك الأيام في العراق. هذه المرة جاء الغدر صواريخ عابرة للحدود تصفي حسابات مريضة لأناس لم يعرفوا السلام في حياتهم.

وداعا يا كرم، يا ابن التسامح والمحبة والثقة والنجاح. كلماتك “هللو عمو” ستبقى ترن بأذني. لا تعرف كم أدميت قلوبنا برحيلك.

18