"كان يا ما كانش" فانتازيا كوميدية تسقط في الاستسهال

يبث مسلسل “كان يا ما كانش” حلقات موسمه الثاني يوميا مباشرة بعد موعد الإفطار، محاولا أن يرسخ نوعا جديدا من الكوميديا، لم تتعود الدراما التونسية عليه من قبل، وخاصة بعد النجاح الذي حققه الجزء الأول من العمل.
يحكي العمل عن قصة مملكة ساطور الملك الذي استحوذت سموم على حكمه بسبب مرضه، وسقطت المملكة في الفقر والمهانة والجوع لكن ابنه برغل تمكن بعد رحلة طويلة رفقة صديقيه نعناع ومهراس من استرجاع الحكم، هذا ما تركنا عليه الجزء الأول، أما الجزء الثاني فيبدأ من استفحال الفساد بعد سنوات من حكم برغل وانتشار اللهو بدل العمل وهو ما أدى إلى فقدانه للحكم واستحواذ عليسار عليه، وبدورها تفقده لتعود سموم من جديد إلى سدة الحكم ويعود النظام القديم، بينما يخوض برغل وأبوه وأصدقاؤه رحلة جديدة لاسترجاع الحكم عبر عريضة يجب أن يوقّع عليها عدد من ملوك الممالك الأخرى.
الإسقاطات السياسية واضحة وكثيرة في العمل، ولكن هل وفّق فيها؟
☚ "كان يا ما كانش" خلق نوعا جديد في الكوميديا التونسية لكنه عانى من الابتذال والتمطيط في جزئه الثاني
يحسب للعمل أنه خلّص الكوميديا التونسية من السذاجة والابتذال اللذين التصقا بها لسنوات، إذ صار الإضحاك استهتارا بالعقول ولعبا على اللهجات الريفية ومسّا من كرامة الكثير من التونسيين فقط لأجل الإضحاك الساذج، وهو ما ملّه الجمهور بل وهاجمه بشدة خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت أن يكون لكل فرد رأيه الخاص.
يمكننا اعتبار “كان يا ما كانش” من جنس فانتازيا التاريخ البديل، إذ تتماس مع التاريخ ولكنها لا تنطلق منه ولا تلتزم بأحداثه ولا بشخصياته، فكل ما في الأمر أنها تقوم باستلهام شخصياته مع تشويه أسمائها وملامحها، واستلهام الأحداث السابقة وحتى الحديثة وتذويبها في قالب الحكاية التي تبدو وكأنها تاريخ بديل لا يتوقف دوره عند المواقف المضحكة والشخصيات الكاريكاتورية وإنما أيضا يذهب إلى نقد الواقع الراهن للتونسيين.
التشابك بين الواقع والخيال في العمل يبدو جليا حتى من الملاحظة التي يسوقها منتجو العمل في بداية كل حلقة في إشارة غير مباشرة إلى وجود تشابه بين شخصيات العمل وشخصيات الواقع، سواء من الشخصيات التاريخية مثل عليسة، التي أصبح اسمها عليسار، أو سقراط الذي أصبح معلم صبيان مشاكسين، وهناك إحالات على شخصيات أخرى مثل السياسيين عبر شخصية خفاش، وهو الذي يمثل النظام القديم الذي وقع طرده من المملكة لكنه عاد من جديد ليلعب بدواليب الحكم ويدبر المؤامرات، في إحالة إلى واقع تونس خاصة ما بعد الثورة وتحالف مع عناصر النظام القديم الذين عادوا بفضل الحكام الجدد إلى مواقع القرار رغم طرد الشعب لهم.
الإحالات على الواقع كثيرة ولعل أبرزها الإحالة على الواقع السياسي التونسي الراهن، مثلا الإشارة إلى ما حدث يوم الخامس والعشرين من يوليو وتجميد الرئيس التونسي قيس سعيد للبرلمان الذي عبث بالحياة السياسية، وإن كانت آراء منتجي العمل السياسية تدخل فقط في باب النقد والإثارة أحيانا فإن هناك إحالات أخرى فنية.
الإحالات الفنية في العمل على أعمال تونسية أو عربية أخرى كثيرة ومتعددة فنجد خاصة استحضار تترات بعض المسلسلات القديمة الشهيرة في تونس أو مصر وغيرهما، وإعادة تجسيد لمشهد أو لقطة ما منها، في قالب يمزج الحنين بالكوميديا، والتذكر بالسخرية،
التي تذهب حتى إلى تأليف الأغاني وتقديم ما يشبه الكليبات بأساليب حديثة اعتدنا عليها مع نجوم الراب أو بأساليب قديمة لترسيخ السخرية.
كما اعتمد العمل في الكثير من مشاهده على أسلوب الخطاب المباشر مع المشاهدين، وهو ما اعتدنا عليه في إسكتشات وسائل التواصل الاجتماعي ولم يسبق أن اعتمدها عمل كوميدي تونسي بهذه الكثافة والقصديّة.
مزج مخرج العمل عبدالحميد بوشناق بين الكثير من التقنيات والمواضيع والشخصيات التي تضحكك حتى من أسمائها، وبعض المواقف خاصة التي يقدمها الكوميدي التونسي سيف عمران في شخصية مهراس، والتي تحسب للعمل، بل مواقفه هي نقطة الضوء البارزة في هذا الجزء، بينما سقطت بقيته في نوع غريب من الاستسهال.
عانى الجزء الثاني من هذه الفانتازيا من الاستسهال وحشد الشخصيات والمواقف المركّبة والحوارات الرديئة في أحيان كثيرة والمشاهد المملة والمسقطة، ما يثبت أن هناك أزمة كتابة بدرجة أولى، خاصة في الحوارات التي يسقط بعضها في السذاجة والمصطلحات المقززة بينما العمل يعرض كوجبة كوميدية أثناء الإفطار، مثل التركيز على البصاق وبعض الألفاظ المنفّرة، من ناحية أخرى تنفرط الحكاية التي باتت تقودها المجانية لتصبح مملّة، ومفرغة من المعنى، إذ كان يمكن مثلا أن يختصر الجزء الثاني في حلقات وشخصيات أقل، وأن تكون الحوارات مدروسة أكثر.
لكن يبقى يحسب لمسلسل “كان يا ما كانش” أنه خلق جمهورا لنوع جديد في الكوميديا التونسية بأن أدخلها في جو الفانتازيا التاريخية، أو ما يمكننا تسميته فانتازيا التاريخ البديل.