كاملة أبوذكري سيدة المهام الصعبة في الدراما المصرية

تمكنت كاملة أبوذكري من حفر اسمها في صناعة الدراما المصرية خلال العقد الأخير، بعدما تبنت اتجاها فنيا مغايرا لأبناء جيلها، فلم ترضخ لضغوط المنتجين في فرض أسماء بعينها على فريقها للعمل، وتحايلت على غياب أوراق السيناريو الجيدة باقتراح روايات ثرية على الكتاب ونقلها إلى عالم المسلسلات، محافظة على تقديم مضمون يتسم بثراء الأحداث والمشاعر النفسية العميقة في الوقت ذاته.
وتسير أبوذكري، التي ولدت في القاهرة عام 1974، على درب جيل الرواد من المخرجين في الاهتمام بالتفاصيل، وتقديم رؤى جريئة ومغايرة حتى لو كانت صادمة، ممتلكة نظرة مختلفة تستطيع بواسطتها إعادة اكتشاف مؤهلات الممثلين، فتدفع ببعضهم إلى ساحات غير متوقعة، وتنقلهم بسلاسة من حلبة الأدوار المركبة إلى ساحة الكوميديا والعكس، دون خوف أو تردد.
ودائما ما تثير الجدل داخل الساحة الفنية، لعجزها عن اتباع اللغة المتلونة التي يتحدث بها الفنانون عن بعضهم في تجارب فنية مشتركة، وتبدي رأيها صراحةَ في شخصياتهم وتجاربهم، ما يجعلها مخرجة وناقدة في الوقت ذاته، وهو أمر غير معتاد في وسط يقتات كثيرا على المجاملة.
ضد الجميع
أثارت مؤخرا معركة محتدمة على مواقع التواصل الاجتماعي، حين اتهمت عددا من الممثلين الذين دفعت بهم لفريق مسلسلها الأخير “100 وش” بالغرور رغم محدودية شهرتهم، وتعرضت لهجوم من ممثلين كبار لم تقصدهم بعدما أنهت تغريداتها بعبارة “أنتم مين أصلا؟”.
تمتلك تعريفا خاصا للفن تحصره في الالتزام والمصداقية، ولا تتردد في حذف مقاطع من أعمالها، بصرف النظر عمن يجسدها حال إخلالها بالسياق، مثلما فعلت مع أحمد الفيشاوي باقتطاع 15 دقيقة من دوره في فيلم “يوم للستات”، وشطبت دور الفنانة سماح أنور بالكامل عندما وجدت أن مظهر الشعر المستعار الذي ترتديه سيء تمثيليا، مع أنها اضطرت إلى حلق شعر رأسها استجابة لمطالب المخرجة لأجل مشهد لا يتعدى أربع دقائق.
وتتعرض كثيرا لاتهامات لا تنكرها من قبيل الدكتاتورية، بفرضها شروطا شديدة الصرامة لضمان ظهور كل ممثل وممثلة بشكل منطقي. فمثلا أجبرت إلهام شاهين رغم اسمها الكبير على الحفاظ على وزنها لمدة 36 شهرا، لحين استكمال تصوير دورها، بعد تعطل تصوير أحد الأعمال بسبب أحداث الثورة المصرية، وألزمت نيللي كريم بإبقاء حواجبها دون تهذيب، وناهد السباعي بتقصير شعرها لعدة أشهر من أجل الدور.
رسالة فنية سامية
ترفض المخرجة المصرية أي قيود أو اعتبارات حال تعارضها مع الرسالة الفنية، ففي مسلسل “واحة الغروب” المأخوذ عن رواية الأديب بهاء طاهر تحمل نفس الاسم، لم تتهرب من تقديم مشهد الانجذاب العاطفي المثلي بين بطلتيه “كاثرين” و”مليكة” بصورة ذكية توصل الفكرة دون تقديمها مباشرة.
وفي فيلم “واحد صفر” لم تخش الاقتراب من أشواك قضية الطلاق في الديانة المسيحية بصورة نقدية، رغم الاعتراضات على شخصيات منسية، واعتبرت تلك المشاهد محركا للأحداث، أتت كنتاج للحرمان العاطفي.
ترى أن الممثل هو العنصر الأساسي في العمل الفني، فمهما كان السيناريو والإخراج جيدا لن يترك صدى مع الجمهور، إذا افتقد التمثيل إلى الصدق، وربما يكون ذلك الدافع وراء اختيارها الدائم لنيللي كريم كبطلة لغالبية أعمالها لاعتزازها بقدراتها على التلون، ولعب شخصيات متباينة بكفاءة.
تنغمس كثيرا في التفاصيل لخلق منطقية لشخوصها، ففي “واحة الغروب” اقترحت على بطلتها منة شلبي السفر إلى أيرلندا للتعرف على طبيعة الشعب الذي ستمثله في شخصية “كاثرين”، واستعانت في الوقت ذاته بشخصين يحملان الجنسية الأيرلندية يقيمان في مصر، أحدهما يتحدث الفصحى والآخر بالعامية لتعليمها كيفية التدرج في اللغة باستمرار، وظلت ستة أشهر في واحة سيوة بالصحراء الغربية لمصر، لإنهاء العمل دون أن تعود ولو مرة واحدة لأسرتها في القاهرة.
ما يميزها هو اقتناص الفرصة، فحينما عرض عليها المنتج جمال العدل مسلسل “100 وش” لم تتردد وتوجهت إلى مقر شركته خلال عشر دقائق فقط، ولم تحسب مخاطرة التورط في عمل كوميدي، رغم أنها مهووسة بالأعمال العميقة، فحسبة نجاح أي عمل يكمن في السيناريو الجيد وليس جمع عدد من الفنانين يتبارون في إلقاء النكات، مثلما يحدث في غالبية الأعمال الخفيفة للضحك حاليا.
تتسم بمرونة شديدة في التعاطي مع الصناعة الإنتاجية، فحينما تعرض سوق الأفلام لأزمة على الصعيد الإنتاجي، انتقلت إلى الدراما حاملة إليها تكنيكات السينما، وتبنت مدرسة خاصة ترفض إعادة تصوير المشاهد أكثر من مرة، واستعاضت عنها بالتحضير الطويل للتصوير، وعقد ورش عمل وبروفات مع كاتب السيناريو والممثلين بملابس الشخصية لضمان أدائها جيدا أمام الكاميرا من مرة واحدة.
يعود الفضل في تشكيل الوعي الإخراجي لعملها كمساعدة لأجيال مختلفة من المخرجين، مثل عاطف الطيب رائد المدرسة الواقعية في السينما، ونادر جلال الأشهر في مجال أفلام الحركة والأكشن، ورضوان الكاشف أستاذ القصة المأساوية القاسية، ومحمد القليوبى، الشهير بمؤرخ السينما المصرية لميله إلى الأفلام الوثائقية، قبل أن تتعامل مع جيل جديد جنح بالسينما نحو الكوميديا مثل على إدريس، ووائل إحسان.
وتكسر كاملة الحلقات المعتادة في صناعة السينما والدراما، فلا تنتظر حتى تأتيها أوراق عمل الجيد ولا ترتكن للشكوى من قلة كتاب السيناريو النابغين، فتفتش في الروايات عما يصلح، وَتتوجه للشركات المنتجة في محاولة للإقناع بالفكرة ليبدأ بعدها التفتيش عن كاتب لتحويل الأحداث الروائية إلى حوارات حية، فالعملية الإخراجية لها شعور وجداني في المقام الأول.
عشق الأدب
وقعت أسيرة لعالم الأدب، فقدمت من أرففه روايتي “ذات” للأديب صنع الله إبراهيم، و”واحة الغروب” لبهاء طاهر، ومسرحية “سجن النساء” لفتحية العسال، في مخاطرة كبيرة، فتفتح مقارنة مستمرة بين العمل الفني والقصة الأصلية، وما تحمله في أحشائها من جماليات فنية وإبداعية وقدرة على مداعبة الخيال.
لا يمكن عزل ذلك العشق عن كونها ابنة الكاتب الصحافي الراحل وجيه أبوذكري، الذي وضع مؤلفات شهيرة مثل “مذبحة الأبرياء في 5 يونيو”، و”الزهور تدفن في اليمن”، و”أنواع من النساء”، و”حرب أكتوبر شهادة إسرائيلية”، ولم يكن بعيدا عن عالم السينما بعدما كتب أعمالا شهيرة مثل “ضد الحكومة”، و”ملف سامية شعراوي”، و”الشيطان يستعد للرحيل”، و”الإعصار”، و”التحويلة”.
وهي تعمل حاليا على تحويل المجموعة القصصية “تحت المظلة” للأديب الكبير نجيب محفوظ إلى عمل سينمائي بالتعاون مع كاتبة السيناريو مريم نعوم، في انتقاء يكشف استمرار تعلقها بالأعمال ذات الصبغة التاريخية، واختيارها لعمل تمت كتابته بعد نكسة يونيو 1967، مليء بالرمزية عن صعود وهبوط الشخصية المصرية.
رغم تعلقها الظاهر بالماضي، لكنها رفضت تقديم السير الذاتية للفنانين الذين يتم تصويرهم بمصر غالبا ما يتم في صورة ملائكية بلا أخطاء، ورفضت بقوة تحويل قصة حياة الفنان أحمد زكي إلى مسلسل رغم قيمته الكبيرة، وترى أنه ليس شخصية تاريخية كي يتم تناوله ويجب ترك صورته في أعين جمهوره كما هي دون تقليب في حياته المليئة بالأسرار مثل غيره من الفنانين الكبار.
تترك أبوذكري لنفسها فرصة التقاط الأنفاس بين عمل وآخر، للتقييم والبحث عن الجديد والمختلف، وتتمسك بأن تكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في توظيف الكاميرا، فلم تتراجع قبل أعوام عن الانسحاب من مسلسل “زي الشمس” بعد تصويرها تسع حلقات، والمطالبة بحذف اسمها من مقدمته، احتجاجا على محاولة الجهة المنتجة فرض كلمتها، واعتبرت المخرج مايسترو العمل، ولا يصح أن يكون ضعيفا أو منساقا، فهو يستشير الآخرين لكنه صاحب القرار، معللة انسحابها برفضها أن تكون “طرطور”، وهي كلمة نابية تطلق على ضعيف الشخصية.
وفي مواقفها ترتكن دائما إلى الأجيال التي تعلمت منها، ففي قصف جبهة الوجوه “المغمورة المغرورة” تستند ليوسف شاهين الذي قال إنها نوعية لن تستمر على سلم النجاح، وفي رفضها التنازل عن حقها الكامل في اختيار الممثلين، تؤكد أنها لن تخون ضميرها وما درسته في المعهد العالي للسينما، ومن تربت على أيديهم من جيل الكبار. وتفضل الاعتماد على فريق متكرر بحثا عن “الكيمياء المشتركة” والتفاهم السلس، بداية من نيللي كريم التي شاركتها خمسة أعمال ناجحة، ومديرة التصوير نانسي عبدالفتاح ذات الميول الفنية التشكيلية، والملحن تامر كروان، ومخرج المقدمات الغنائية عطية أمين، زميلها وشريكها في أعمال عدة، رغم تخصصه في الإخراج.
لكنها تعرف حدود عمل كل عناصر المنظومة، فلا تنتابها الغيرة الداخلية من تحقيق أبطالها الشهرة على حسابها، وتعتبرها ضرورة من ضرورات الصناعة التي تجعل مَن أمام الكاميرا يحصل على مزايا عمن يقف خلفها، ولم تدفع بنفسها للعب دور في أعمالها كغيرها من المخرجين لكي تكون وجهًا معروفا للجمهور.
شخصية عنيدة
تتسم أبوذكري بشخصية عنيدة مثابرة، ففي تصوير مسلسل “ذات” رفضت اقتراح الإنتاج بتغيير السيناريو للتخلص من إحدى بطلات العمل التي اعتادت التأخير عدة ساعات، واستحدثت نمطا من العقاب شبيها بأسلوب المعلمين في المدارس، فنادتها طوال جلسات التصوير باسم الشخصية التي تؤديها، وليس اسمها الحقيقي، بما يتضمن نوعا من التوبيخ والتأنيب.
ترى أن الحياة لا تستقيم إلا بالحرية، لذلك أطلقت على ابنتها اسم “أبيّة”، وتقول إن النصيحة التي توجهها لها باستمرار هي “عيشي حرة دائماً”، ويمتد هذا العشق إلى الفن فحين سألها مذيع مشاكس عن أول قراراتها حال اختيارها وزيرة للإعلام ليوم واحد فقط ردت دون تردد “إلغاء الرقابة”.
من المنطلق ذاته، خالفت الرأي السائد في الوسط الفني حول الثنائي عمرو واكد وخالد أبوالنجا، واعتبرتهما فنانين خسرهما الفن بسبب المواقف السياسية، وبررت دفاعها عنهما إزاء حملات التشكيك في الوطنية والتخوين، بحق كل إنسان في تبني الآراء والأفكار التي يريدها.
تنتقد أبوذكري تأثير الاحتكار على الفن الذي يهدد حياة الكثير من الأشخاص الذين يقتاتون من العمل في المسلسلات، وصنفت الدراما المصرية حينها بأن ترتيبها الرابع على المستوى العربي بسبب تخلي الدولة عن الإنتاج. ولهذا تطالب بدعم الإنتاج الرسمي بالشكل الحقيقي وإنهاء عبارة “إنتاج للأسرة المصرية”، فالفنان ليس معلما كي يعطي درسا للأجيال القادمة، والفن حرية وجمال وأفكار، ودللت بأفلام “واحد صفر”، و”ملك وكتابة”، و”قطار الساعة السادسة”، التي أخرجتها بتمويل رسمي رغم جرأة موضوعاتها.
تحتل قضايا المرأة جزءا كبيرا من أعمال أبوذكري، لكنها تعتبرها صدفة، وترفض مصطلح السينما النسائية، لأن الفن عندها تجسيد للمجتمع بشكل عام بشقيه الذكوري والأنثوي معا، وغالبية المهتمين بالقضايا النسائية كانوا رجالا مثل المخرج محمد خان الذي قدم عدة أعمال عنها أهمها “فتاة المصنع” و”في شقة مصر الجديدة”.
ما يهمّها هو جودة الصناعة في المقام الأول، فتقول إنها لو تعاملت مع فنان بقيمة عادل إمام في عمل مشترك، ستأخذ مشورته في فريق العمل، ملمحة إلى أن القرار النهائي سيكون لها، ودخلت في خلاف مع صديقتها مريم نعوم بسبب تأخيرها في تسليم سيناريو حلقات أحد المسلسلات المشتركة بينهما، ما يعطل قدرات الإخراج على التحضير للعمل ومراعاة متطلباته الوقتية.
لا تزال كاملة أبوذكري تفضل السينما على الدراما، رغم النجاح الذي حققته مسلسلاتها، باعتبار الأولى تتضمن مساحات أكبر من الحرية دون دعوات التحفظ المرتبطة بجمهور الدراما الواسع، وتعتبر أن تخلي الممثلين عن الأدوار الجريئة أفقد الأفلام جزءا من سحرها وألقها.