"كاليغولا 2" على خشبة الحمامات تؤكد بصمة المسرح التونسي الجديد

في إطار انتصار مهرجان الحمامات الدولي للمسرح الذي يحضر عبر عدد من العروض المتنوعة في برمجته، كان الجمهور على موعد مع عرض مسرحية “كاليغولا 2” للمخرج الفاضل الجزيري، والتي مثلت تجربة لافتة في جزئها الأول، وجاءت في مواصلة حفر في الواقع.
كان جمهور الدورة السابعة والخميسين من مهرجان الحمامات الدولي مساء الثلاثاء الثامن من أغسطس الجاري على موعد مع عرض مسرحية “كاليغولا 2” للمخرج الفاضل الجزيري، والتي مثلت عملا نوعيا ضمن عروض المهرجان.
مثل عرض “كاليغولا 2” فرصة لاستعادة الأعمال الرصينة في المسرح التونسي بتوجهاته الحداثية التي تمرد فيها منذ السبعينات مع المسرح الجديد على المسار الكلاسيكي الضيّق الذي مازالت الكثير من المسارح العربية غارقة فيه إلى اليوم.
الفن والتاريخ
المسرحية كما هو بيّن من عنوانها، تعود إلى شخصية بصمت التاريخ الإنساني، ودخلته كمثال على الطاغية المجنون، إنه الإمبراطور الروماني الملقب بكاليغولا، والذي حكم روما لأربع سنوات كانت كفيلة بإلحاقه في خانة أفظع الحكام المهووسين في التاريخ البشري.
كاليغولا كما نعلم من خلال المعلومات التاريخية، شاب فتنته السلطة، وتحول ما أن اعتلاها إلى آلة بطش مجنونة، يقتل للمتعة ويتحكم في المصائر والنفوس ويلهو بالدم والأرواح ببرود مرضيّ، وقد ذكرت العديد من المصادر التاريخية أفعالا شنيعة لهذا الإمبراطور الشاب الذي اغتيل باكرا، ورغم أن الكثير منها مشكوك فيه والمقارنات بينها تؤدي إلى تضارب كبير، فإن هذه الشخصية نجحت في أن تعبر إلى الخلود، بصفتها واحدة من الطغاة الأكثر شهرة.
في كل العصور تتم استعادة كاليغولا، خاصة في الفن، بصفته تجسيدا لنظام الحكم الكلياني وجنون الطغيان والسلطة وما يواكبه من حاشية فاسدة تعتاش على جنون الطاغية وترسّخ سلطانه المهووس حد ادعاء الألوهة، لا لشيء إلا لنيل المكاسب من التصفيق والتهليل ومن استمرار النظام المختل.
مسرحية الجزيري لم ترتبط بشكل كلي بقصة الحاكم كاليغولا، نجد تقاطعات كثيرة مع القصة التاريخية، إذ تدور المسرحية حول الحاكم الشاب المهووس بالسلطة وما يدور حوله من أعوان سلطة يرسّخون حكمه، ومن نساء يستغلهن، نجد كذلك ذكرا ولو عابرا لعلاقة الطاغية بأخته، التي أوردت بعض المصادر التاريخية أن فيها سفاح قربى، وكذبت أخرى ذلك، إذن تتقاطع الشخصيات المسرحية مع الشخصيات التاريخية في الطبع، لكن لا تطابق بينها.
نص العمل ومواضيعه باللهجة التونسية، إذ قسّم العمل إلى مشاهد يخوض كل منها في قضية، مثل العنف والصراع لأجل السلطة والفساد والطغيان، ولكن بإحالة على واقع تونس اليوم، ونقول تونس رغم أن العمل لا يقدم إطارا مكانيا أو زمانيا محددا، فقط يدور في حمّام أثناء هبوب عاصفة حيث يعلق الجميع في الداخل بينما المفاتيح عند الطاغية.
الإحالات إذن كثيرة متعددة، وكل واحدة منها تحاول مقاربة الواقع التونسي من زاوية معينة، نذكر مثلا نقدا رائعا للذكورية وعنفها من خلال مشهد الفتاة التي تصعد الكرسي، وتحكي قصة تعرضها للعنف، بينما تلوّن وجهها بلحية تصنعها من أحمر الشفاه، مشهد آخر فيه شخصية “الحركاتي” ذراع الطاغية اليمنى والذي بعد أن عزل أقر بوجود حسابات له في الخارج، في إحالة على فساد لا يزال ينخر تونس على غرار الكثير من بلدان العالم الثالث، بسلطتها الفاسدة.
بصمة تونسية
يقدم العمل الطاغية في ثوب الضعيف والمختل والمهتز نفسيا، ويفكك من خلاله الواقع بطرق ذكية، لا تقول بل تشير وتدفع إلى السؤال والتأويل وهكذا هو حال المسرح التونسي. فمنذ تأسيس فرقة المسرح الجديد التي كان من بين مؤسسيها الفاضل الجزيري رفقة الفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وجليلة بكار وغيرهم، اتخذ المسرح التونسي مسارا مغايرا تماما، وتجاوز الرهان على خطيّة الخرافة والدراما الأرسطية، لينتقل وفق رؤية المسرح الملحمي البريشتي إلى تشكيل آخر مختلف يقوم على التجريب الواعي ويتجاوز الانفعال الساذج.
ذكّرني العمل الجديد للجزيري بعمل مسرحي مؤسس في تاريخ المسرح التونسي والعربي هو “غسالة النوادر” الذي مهد الطريق لمسرح مغاير، وفتح أبواب التجريب على مصراعيها، ويختلف العملان كليا لكن كلاهما يعود إلى عزل الشخصية المسرحية عن محيطها المألوف، والدخول إلى أعماقها المضطربة، نفس الشيء كان في مسرحية “خوف” للفاضل الجعايبي، وعديدة هي الأعمال التي انتهجت هذا التمشي، واقع مأزوم في الخارج (عاصفة، زلزال، حرب.. الخ) واختباء في مكان لا يمكن الخروج منه، وهناك نكتشف حقائق النفوس.
للمسرح التونسي ونحن نشاهد “كاليغولا 2” جرأته في الكشف والمكاشفة، وذلك بوعي حاد لا يسقط مطلقا في الانفعالية العاطفية التي نراها في مسارح عربية أخرى، بل هو في النهاية لعب.
اللعب نراه في المسرحية من خلال بقاء الممثلين على جانبي الخشبة مكشوفين، كل منهم جالس ينتظر دوره ليقتحم مستطيل الضوء ويؤدي دوره ليعود إلى مكانه من بعد، وأمام كل منهم إشارة المثلث التي ترمز إلى التشغيل، تُضاء الإشارة فيدخل الممثل يقدم دوره ثم يعود إلى “الدكة” على جانبي الخشبة، وهناك من الممثلين من بقي باسمه الحقيقي كشخصية مثل طلال، الشخصية التي أداها طلال أيوب.
التداخل والتمازج بين اللعب والصعود إلى ذروة الأداء والنزول إلى عبثه وبروده وغيرها من رمزيات أتقنها الممثلون في العرض، ليقدموا عملا يثبت بصمة المسرح التونسي المختلفة رغم انتشار تيارات كلاسيكية متشابهة في المسارح العربية الأخرى.