"كاسيت 90" يعزف على وتر النوستالجيا لموسيقى التسعينات

حميد الشاعري "الكابو" الذي أحدث نقلة نوعية في الموسيقى العربية.
الجمعة 2023/08/18
سهرة حنين إلى الماضي الجميل

في الوقت الذي تشرئب فيه الأعناق والعقول إلى المستقبل المجهول وتخطط له أعادت الهيئة العامة للترفيه السعودية محبي الموسيقى العربية إلى الماضي الجميل، بحفل يستعيد أشهر نجوم تسعينات القرن الماضي ويمنحهم فرصة تحقيق مبتغى لطالما حلموا به ألا وهو اعتلاء مسارح المملكة والغناء على أرضها. وحقق هذا الحفل نجاحا باهرا رغم الهنات وذكّر بجزء مهم من تاريخ موسيقانا العربية وهويتنا المشتركة.

في خطوة أثارت الكثير من الإعجاب، والكثير من النقد والتفاعل أيضا، أعادت الهيئة العامة للترفيه السعودية إلى الواجهة موسيقى تسعينات القرن الماضي، عبر حفل موسيقي كبير احتضنه مسرح “بنش مارك” في جدة، وحمل عنوان “كاسيت 90”.

الحفل الذي استمر لنحو 5 ساعات متواصلة أحياه تسعة من نجوم الأغنية المصرية خلال فترة التسعينات، وهم: مصطفى قمر، وإيهاب توفيق، وهشام عباس، وسيمون، وحميد الشاعري، وخالد عجاج، وحسام حسني، ومحمد محي، فضلا عن المطرب محمد الحلو الذي يُعد مفاجأة هذا الحدث؛ إذ لم يتم الإعلان عن مشاركته ضمن برنامج الحفل.

وقدّم الحفل المذيع المصري ممدوح موسى، وهو أحد أبرز مُقدمي البرامج الفنية والذي كان شاهدا على نجومية أبطال “كاسيت 90” ومواكبا لبداية مشوارهم الفني.

فن الكاسيت

الحنين إلى الماضي يظهر في الدول العربية على شكل فعاليات ومجموعات غنائية تعيد أداء أغاني تسعينات القرن الماضي

دامت سيطرة شرائط الكاسيت على سوق الفن عدة عقود، وبلغت ذروتها في فترة الثمانينات والتسعينات، حيث كانت تمثل قمة التكنولوجيا في عالم الموسيقى، وحققت النجاح للكثير من الفنانين بسهولة استخدامها وتوزيعها، مما اعتبر آنذاك نقلة نوعية في عالم صناعة الموسيقى، وأسهمت أيضا في التعريف بتراث موسيقي قديم وتوثيق أعمال العشرات من المطربين.

وخلال تلك الفترة كانت شرائط الكاسيت وأجهزتها مكوِّنا لا تخلو منه أغلب البيوت، تسمع صوتها مرتفعا صارخا طوال اليوم، ينبعث من غرف الشباب المراهقين التي تتزين حيطانها بصور فنانيهم المفضلين، وأغلفة “ألبوماتهم” الموسيقية، وصورهم في المجلات والصحف الشهيرة.

وفي السنوات الأولى من الألفية الثالثة بدأت أشرطة الكاسيت تتوارى شيئا فشيئا حتى صارت ركنا مهملا في المنازل أو تم التخلص منها بالفعل مع بزوغ نجم تكنولوجيات أخرى أكثر حداثة واحتلت الصدارة في عالم صناعة الموسيقى، منها “السي دي” ثم “الفلاش ديسك” وبعدهما مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح عرض أي أغنية في أي وقت. وحدهم من يحبون جمع المقتنيات القديمة “الأنتيكة” يحتفظون بعالم موسيقي مصغر يأخذهم بين الفينة والأخرى إلى رحلة عبر الزمن.

لذلك، وفور الإعلان عن حفل “كاسيت 90”، بدأ الجمهور العربي يتداول أخباره والبوسترات (المعلقات) الخاصة به عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتصدر الحفل التريند قبل إقامته بأيام معدودة، مثبتا حالة الحنين والنوستالجيا التي تعيد الجمهور العربي إلى ذكرياته مع نجوم جيل تسعينات القرن الماضي.

سيمون لأول مرة في السعودية
سيمون لأول مرة في السعودية 

وتبدأ أول ملامح النوستالجيا مع الشارة المخصصة للحفل، التي اعتمدت لحن أغنية “عدى الليل” للفنان إيهاب توفيق التي غناها لأول مرة في عام 1995، لينطلق الحفل من “كل البنات بتحبك”، لحسام حسني (مواليد 1966)، هذه الأغنية التي كانت عنوان حفلات أعياد الميلاد والأعراس في التسعينات، ثم فسح المجال لمحمد محي (1970) الذي قدم أشهر أغنياته بدءا من “أعاتبك على إيه” و”قادر وتعملها”، تلته سيمون (1966) التي غنت “مش نظرة وابتسامة”، و”ماشية وساعتي مش مضبوطة”. بعد ذلك صعد الفنان حميد الشاعري على المسرح  مقدما باقة من أغانيه الشهيرة، قبل أن ينضم إليه الفنان هشام عباس، ليُقدما معا الدويتو الشهير “عيني” الذي سبق أن قدماه قبل نحو 26 عاما، فيما استكمل هشام عباس باقي الفقرة بمفرده، ليغني عددا من أعماله، منها “ناري نارين” و”قول عليا مجنون” و”وأنا أعمل إيه” و”يا ليلة” وغيرها.

وحمل الحفل مفاجأة للجمهور بظهور خاص للفنان محمد الحلو (1955) بعد فترة طويلة من الغياب، إذ استهل فقرته بغناء تتر مسلسل “ليالي الحلمية” و أغنية “عمار يا إسكندرية” من مسلسل “زيزينيا”.

الحلو أحبه الجمهور من خلال ما أحبوه من أفلام ومسلسلات حيث يعد من الفنانين الأوائل الذين غنوا تترات ومقدمات المسلسلات بل وأكثرهم أداء، مثل: “آه يا زمن” و”ليالي الحلمية” و”حياة الجوهري” و”زيزينيا” و”حلم الجنوبي” و”بوابة المتولي” و”درب الطيب” و”هالة والدراويش” و”للثروة حسابات أخرى” و”الآنسة كاف”.

كذلك حضر الفنان خالد عجاج (1952) لكونه أحد أبرز نجوم الأغنية خلال فترة التسعينات، حيث قدم مجموعة من أهم أغانيه، مثل “أصعب حب” و”تعالى لي” و”شكا وحكى وبكى”.

وبعد ذلك صعد الفنان مصطفى قمر (1966)، وهو الملقب بملك البوب المصري، ليغني هو الآخر مجموعة من أبرز أغانيه، مثل “الليلة دوب” و”السود عيونه”، وذلك قبل أن يقدم دويتو غنائيا مع حميد الشاعري بعنوان “آه يا غزالي”.

واختتم الحفل بـ”كوكتيل من الرقص والغم” كما وصفه المذيع ممدوح موسى، كوكتيل قدمه الفنان إيهاب توفيق (1966) بأغنياته “سحراني” و”مالهمش في الطيب” و”أكتر من كده إيه”.

حنين إلى الماضي

فكرة ناجحة
فكرة ناجحة

وقدم المطربون خلال الحفل باقة من أجمل أغانيهم التي لحنها ووزع أغلبها حميد الشاعري، وحققت نجاحا كبيرا في التسعينات وبداية الألفية الثالثة.

لم تتعد أعمار المتابعين الذين حضروا بالآلاف الخمسين عاما، أغلبهم من شباب التسعينات الذين كانت علاقتهم بالكاسيت علاقة حب وذكريات. يضربون المواعيد لانتظار صدور كاسيت نجمهم المفضل، يسمعون أغنياته أغنية أغنية. جمهور حضر لاسترجاع جزء من ماضيه مع فنانين تجاوزت أعمارهم الخمسة والخمسين عاما لكنهم بحيوية الشباب وبحلم التسعينات وشغفها الذي جعلهم ينتجون أغاني أحبها الملايين من العرب وكبرت معهم.

هذا الحنين إلى الماضي يظهر في الدول العربية على شكل فعاليات ومجموعات غنائية تعيد أداء أغاني التسعينات، منها مثلا عرض “الكيتش” الذي يؤثث سهرات العلب الليلية في تونس وبعض المهرجانات.

لكن هذا الحفل، الذي وإن كان لمطربي التسعينات وأغاني هذه الفترة، قُدم دون روح التسعينات، حتى النغمة اختلفت ونغمات الآلات لا تبدو مثل ما كانت تعزف في السابق، ربما لأنه نظم في غير مكانه، فجمهور هؤلاء الفنانين لم يكن من السعوديين في فترة كانت فيها المملكة منغلقة على نفسها انغلاقا شديدا، وإنما هو جمهور متلون بألوان بقية العواصم العربية المتحررة آنذاك.

الجمهور الخليجي أيضا بدا جمهورا رصينا لم يتحرر بعد من كلاسيكيات حضور الحفلات الكبرى، فلو كان الحفل في تونس أو مصر أو لبنان أو المغرب أو أي من الدول العربية التي اعتاد جمهورها الحفلات الموسيقية وصخبها، لكان حفلا أكثر تفاعلا، وهو ما نأمل مشاهدته فعليا بجعل هذا الحفل مشروعا يعرض على أكبر المسارح العربية.

حميد الشاعري استطاع منذ التسعينات إلى اليوم أن يكون الاسم الأبرز فيما اصطلح عليه باسم "صناعة البوب الشرقي"

هذا المشروع رأى بعض متابعيه أنه قد لا ينجح في مصر مثلا التي تدهورت فيها الموسيقى بشكل كبير مع ظهور أغاني المهرجانات فيما تبدي السعودية منذ فترة اهتماما بأشهر المجددين في الموسيقى العربية، وتكرمهم في حفلات جماهيرية كبيرة ويبدي الجمهور السعودي انفتاحا وإقبالا على حفلاتهم وأغانيهم.

وعلقت الناقدة المصرية فايزة الهنداوي على هذا الحفل فكتبت بلهجة محليّة “حفلة كاسيت 90.. ممكن كتير يتبسطوا بيها .. لكن إحساس جيلنا بيها مختلف. صعب أي حد يحسه .. كاسيت 90 بالنسبة لنا مش مجرد حفلة.. دي تجربة زمنية بترجعنا لماضينا وذكرياتنا وتفكرنا بأيام حلوة عشناها.. وبتؤكد لنا أن الزمن الحالي مش بتاعنا.. أغاني لسة بتنبض بروحنا.. وشايلة معاها أحلام حتى لو متحققتش بس بتفكرنا أننا كنا عندنا القدرة على الحلم.. قبل ما تتسرسب (تفلت) سنيننا من بين أيدينا”.

حالة الحنين هذه لمسناها أيضا منذ عرض مسلسل “ريفو” بجزئه الأول، وهو الذي تناول الحياة الموسيقية داخل المجتمع المصري في فترة التسعينات وحقق رغم بساطته وقلة الإمكانات الإنتاجية نسب مشاهدة مرتفعة وإشادات به وحنينا كبيرا ورغبة في العودة إلى الحديث عن تلك الحقبة الزمنية.

“خمس ساعات” من الفلاش باك، الأكيد أنها فعلت ما فعلته بذاكرة كل من حضرها وشاهدها على شاشة “أم بي سي مصر”. أعادت أغلبهم إلى سن المراهقة والحب الأول، إلى فترة الدراسة الثانوية والجامعية، إلى ذكريات مع الأهل والأصحاب. إنه الحنين، هو الذي أنجح الحفل وهو الذي أثار موجة من الشجن لم تنته، حنين يؤكد قول الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق “لو عاش الإنسان مئتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياءَ لم يعد لها مكان”.

عصر "الكابو"

Thumbnail

في الفترة الممتدة بين عامي 1917 و1935 ولد “فنيا” خمسة موسيقيين كبار رسموا شكل الموسيقى العربية الحديثة، وهم سيد درويش (1892-1923) ومحمد القصبجي (1898 – 1966) وزكـريا أحـمـد (1896 – 1961)، ومحمد عبدالوهاب (1904 – 1991)، وريـاض السنباطي (1906 – 1981)، الذين استمروا في تقديم أعمالهم إلى قرب نهاية القرن وبالتحديد عام 1990.

في هذه الفترة، وتحديدا منذ سنوات السبعينات، ظهر أيضا الموسيقار بليغ حمدي ليكسر اللحن الكلاسيكي للموسيقى العربية، فقد أحدث نقلة نوعية في تجربة عبدالحليم حافظ وأم كلثوم، وأسس لنفسه تجربة واضحة المعالم مع وردة الجزائرية، لكنه لم يقطع كليا مع النغمة الشرقية بل أضفى عليها الكثير من الموسيقى الشعبية المصرية ليحررها من “محليتها” ويمنحها حضورا عربيا.

هذه المحطة الثانية لم يكسرها ويشق ثوبها القديم سوى الفنان الليبي حميد الشاعري (1961)، الذي لم يمنعه فشل ألبومه الأول من أن يواصل تجربته الموسيقية ويدخل عالم التوزيع الموسيقي، ويتبنى أصواتا جديدة أغلبيتها أصبحت اليوم من نجوم الصف الأول.

بدايات الشاعري كانت في موطنه ليبيا كعازف على آلة الأورغ في إحدى الفرق الموسيقية ببن غازي، لينضم بعدها إلى فرقة الإذاعة الليبية وأسس فرقة في ليبيا باسم “أبناء أفريقيا”، حتى سافر إلى بريطانيا لدراسة الطيران ثم قرر الاستقرار في مصر وامتهان الفن.

واستطاع الشاعري منذ التسعينات إلى اليوم أن يكون الاسم الأبرز في ما يسمى “صناعة البوب الشرقي” أو “الأغنية الشبابية”. وهو ما أدخل الموسيقى العربية مرحلة التوسع في استخدام الآلات واعتماد إيقاع المقسوم.

فور الإعلان عن حفل "كاسيت 90"، بدأ الجمهور العربي يتداول أخباره والبوسترات (المعلقات) الخاصة به عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتصدر الحفل التريند قبل إقامته بأيام معدودة

وساهم هذا الفنان “العصامي” في اكتشاف النسبة الأكبر من نجوم هذه الفترة، كما كانت ألحانه سببا مباشرا في صناعة نجومية جيل كامل من المطربين، منهم مصطفى قمر وهشام عباس وسيمون وإيهاب توفيق بالإضافة إلى الاسمين البارزين على الساحة الغنائية حاليا وهما عمرو دياب ومحمد منير. وكانت لمسته سر نجاح أوبريت الحلم العربي، الذي مازال يذكّر العرب بحروبهم وآلامهم وبأحلامهم التي لم تتحقق بعد.

وتعرض الشاعري للكثير من الانتقادات، حيث اتهم بأنه تسبب في إفساد الذوق العام، والتعدي على التراث، وإغراق الساحة الغنائية بأصوات شابة غير صالحة للغناء، وواجه انتقادات كبيرة بسبب مظهره الخارجي، حيث اعتاد الظهور بالملابس الرياضية، وأبرز منتقديه الملحن الشهير حلمي بكر الذي كان لسنوات من أشد المدافعين عن التراث الموسيقي العربي ضد المجددين الذين مثلهم حميد الشاعري، لكنه اعترف في آخر المطاف بأهمية تجربة الشاعري وأن التجديد في الموسيقى كان أمرا لا مهرب منه بالتزامن مع تطور الموسيقى العالمية.

وبينما جرى نعت هذا الاتجاه الغنائي بالانسلاخ المشوه عن الغناء العربي الأصيل، لقب فنانون حميد الشاعري بـ”الكابو”، وهي كلمة إيطالية تعني “المعلم” أو الرجل الكبير في مهنته.

“الكابو” أثبت منذ التسعينات إلى اليوم أنه حمل مشروعا موسيقيا متكاملا، قد يحبه البعض ويهاجمه البعض الآخر، لكنه نجح في تجديد الأغنية العربية، وقدم الأعمال التراثية الشعبية في مصر وعدد من الدول العربية بتوزيع موسيقي جديد يناسب العصر، حتى أن بصمته في مونولوجات الأفلام المصرية لتلك الفترة جعلتها تحقق نجاحا مستمرا.

“الأيام الحلوة ما بترجعش تاني”، هكذا غنى إيهاب توفيق أغنيته الشهيرة في عام 1999 والتي مازال يرددها محبوها مؤمنين بأن الماضي الجميل لا يعاد و”الأيام الحلوة بتعدي في ثواني”، لكن هيئة الترفيه استطاعت أن تعيد القليل منها وتنعش ذكريات الجمهور العربي مع مطربي التسعينات وأغنياتهم العاطفية وتذكرنا بأحد أشهر الملحنين والموزعين الموسيقيين وتكشف أن حفلات من هذا النوع قادرة على تقديم عروض ناجحة وذات حضور جماهيري مكثف.

15