قيس سعيّد.. تثوير الخطاب الانتخابي

الأهم من وصول قيس سعيد لقلوب التونسيين، وصوله إلى عقولهم واقتناعهم بأدائه، وهو أمر صعب وجلل لشعب لن يغفر للسياسيين ثانية الإخلاف بالوعود والنكوص عن التعهدات.
الثلاثاء 2019/10/15
سعيّد اعتبر الشباب هم الحل نفسه وهم قادة المشاريع الاجتماعية والمحلية

قد يكون من المبكر الحُكم على نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تونس ووصفها بالمُنعرج الراديكالي أو التحول الجوهري، لا فقط لأن الزمن الانتخابي لم ينته بعد، بل أيضا لأن المشهد السياسي التونسي يحمل من التركيب المتضاد ما يفرض تفكيكا عقلانيا ومنطقيا للأمور بعيدا عن المقولات الدغمائية الصادرة من إعلام الفريق المنهزم الذي دخل في بكائيات على الهواء، أو تلك المتبنية من الفريق المنتصر والذي يبدو أنه حمل الفوز أكثر مما يستحق من الدلالات والمعاني.

ما يُمكن استنتاجه من خلال النتائج الأولية للانتخابات، أن التونسيين تملكوا فكرة السيادة المشتركة في صلاحيات العزل والتنصيب بحكم صندوق الاقتراع، وهو استحقاق مكّنهم من سحب الثقة من المنظومة الحاكمة سابقا، ومنحها إلى أطراف جديدة على الساحة السياسية في البلاد، وسيمكنهم في المحطات الانتخابية القادمة من نفس الأمر.

الواضح أن الشرعية الرمزية للانتخابات الحالية مختلفة عن مثيلتها في الانتخابات السابقة، فلئن بُنيت انتخابات 2014 على شرعية استرداد الدولة من الثورة، بعد أن أضاع هواة الحُكم بوصلة الإدارة وثقل الدولة، فإن انتخابات 2019 قامت في جزء منها على فكرة استرداد الثورة من الدولة، بمعنى استعادة أشياء من الشعارات الكبرى التي تأصلت عليها انتفاضة 2011.

ولأنّ الطبقة السياسية الحاكمة للمشهد التونسي منذ 2011 إلى 2019، أصابتها أمراض الديمقراطية الوليدة (استشراء المال الفاسد وتقاطعات مراكز النفوذ مع الإعلام)، وضربتها علل الديمقراطية العتيقة (من حيث عدم الثقة في العائلات السياسية الكبرى)، فإن جزءا كبيرا من الخزان الانتخابي الوطني ذهب إلى مرشح من خارج الصندوق السياسي المعروف.

ظاهرة الرئيس الجديد، قيس سعيد، تحتاج إلى قراءة علمية عميقة وتتطلب مخابر بحث جادة، فالرجل تمكن لا فقط من هزم إمبراطوريات إعلامية واتصالية كبرى، ومن سحق مرشحين قادمين من مطبخ القرار الوطني والإقليمي والدولي، بل أيضا استطاع فكّ شفرة الناخب التونسي والوصول إلى المواطن الذي فقد الثقة في الأحزاب وفي النخبة السياسية ككل.

فسعيّد، الذي يبدو منذ الوهلة الأولى بالخطيب المتحدّث بلسان عربي مبين يُستعصى فهمه على الشاب أو المواطن البسيط، تمكن عبر خطابه من إعادة بثّ الروح في طبقة الشباب ومن تقديم تصوّر جديد للناخب والمواطن، لا باعتباره خاضعا للسياسي بل باعتباره محور الفعل والتغيير.

لعب سعيد كثيرا على تثوير الخطاب السياسي، وعلى قلب المعادلات في المعنى الخطابي، مكثفا في استعمال عبارات مهمة ووازنة رمزيا على غرار “الشعب يريد، ويعرف ما يريد”، “الشعب لا يريد وعودا زائفة”، “ضرورة التمكين للشعب”، وهي عبارات مختلفة عن المدونة السياسية المعتمدة والمستعملة في المشهد السياسي التونسي.

اشتغل سعيد على الشباب المتعلم والجامعي، والذي صوّت له بمئات الآلاف، مستغلا أمرين اثنين. أولهما حالة التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي عليها الشباب في الأحزاب والإعلام والسلطة ومراكز القرار، وثانيهما حالة الاستغراب التي تعيشها هذه الشريحة رغم كونها القادح الأساسي للثورة والانتفاضة.

وعلى خلاف الخطاب السياسي الانتخابي الكلاسيكي الذي يرى في الشباب جزءا من الحلّ وعاملا مُساعدا في الحوكمة الرشيدة، فإن سعيّد اعتبر الشباب هم الحل نفسه وهم قادة المشاريع الاجتماعية والمحلية.

نجح سعيّد في قلب المعادلة الانتخابية، فلم تعد البرامج الانتخابية نابعة من المرشح بل من الناخبين، والحملات الانتخابية صارت من عندهم وليست من عنده، مما أحدث تأثيثا جديدا في مستوى الهامش والمركز، والصوت والثقة، والفاعل السياسي والخزان الانتخابي.

والتصويت الاقتراعي الكبير، إضافة إلى الفرحة الغامرة في الشوارع، تثبت نسبيا صحة مقولة “تملّك” الشباب للمشروع ونجاح سعيّد في استرداد فكرة الأهلية والسيادة للشباب، دون أن نقصي من التحليل عوامل الحشد الحزبي لحركة النهضة وائتلاف الكرامة وباقي الأطراف المتقاربة اليوم.

سعيّد نجح في قلب المعادلة الانتخابية
سعيّد نجح في قلب المعادلة الانتخابية

هل أن تطبيق الرئيس قيس سعيد لبرنامجه الانتخابي سيكون سهلا وسلسا، كما كانت الحملة الانتخابية وكما كانت أيضا قابلية الجمهور لهذه الوعود؟

ما نتصوره أن الصعوبات التي ستقف أمام قيس سعيد كثيرة جدا، أولها غموض النظام السياسي المقترح من قبله، وهو نظام مجلسي، يعيد الرأي العام التونسي إلى سردية تأسيسية وإلى تنقيحات دستورية لا أتصور أن أحدا من الأطراف السياسية بإمكانه تحملها.

ثانيها أن الملفات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي تنتظر الرئيس القادم وحكومته القادمة، خاصة منها الميزانية الجديدة والميزانية التكميلية وقانون المالية لن تمكنه من مجرّد الالتفات إلى البرامج التنموية الأخرى.

الثالثة أن الاستحقاقات الدستورية الواجب استكمالها حاليا غير مرتبطة بالنظام السياسي بقدر ما هي متعلقة بهيئات تأثيث العلاقة بين الأطراف الحاكمة، وعلى رأسها المحكمة الدستورية وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وعدة هيئات أخرى.

العقبة الرابعة أن سعيد سيتبين له ولكافة أنصاره، ضيق مؤسسة الرئاسة، من حيث الصلاحيات المسندة ومن حيث “اليُتم” السياسي للرئيس عندما يكون بلا سند برلماني وازن.

الخامسة أن سعيد لا بد له من تثبيت قبعة رئيس الجمهورية وعدم البحث عن قبعة رئاسة الحكومة أو صلاحيات الأخيرة، فالتونسيون سئموا من صراع المؤسسات التنفيذية ومن نزاع المستشارين.

ما ينتظره الكثير من التونسيين من قيس سعيد هو طمأنتهم الفعلية من حيث عدم استدرار نموذج المنصف المرزوقي إلى قصر قرطاج، وعدم استجلاب المتطرفين والمتعصبين إلى مركز الحكم، وعدم الارتهان لا إلى عواصم إقليمية ولا إلى تحالفات حزبية ضيقة.

الأهمّ من وصول قيس سعيد لقلوب التونسيين، وصوله إلى عقولهم واقتناع الناس بأدائه، وهو أمر صعب وجلل لشعب لن يغفر للسياسيين ثانية الإخلاف بالوعود والنكوص عن التعهدات.

8