قنصلية تشاد في الصحراء المغربية: الأبعاد والدلالات

العلاقات المغربية – التشادية ليست وليدة اليوم كما يظن البعض، بل تعود جذورها الموثقة تاريخيًا إلى حوالي خمسمئة سنة، حيث عرفت أول اتصال دبلوماسي بين المخزن السعدي في مراكش وإمبراطورية “بورنو – كانم” التي ضمت تشاد والكاميرون والنيجر ونيجيريا. أرسل السلطان إدريس ألوما في سنة 1582 سفارة إلى السلطان السعدي المنصور الذهبي، ليتشكل بعدها تحالف سياسي وعسكري بين الإمبراطوريتين في مواجهة الأطماع العثمانية التي كانت تهدد الدولتين من الشرق، حسب المؤرخ زكرياء أسيفو مؤلف كتاب “تاريخ أفريقيا العام”. والأكيد أن العلاقات الحضارية بين الشعب المغربي والشعوب الأفريقية الأصيلة حول بحيرة تشاد ليست طارئة كما يتوهم البعض، حيث يؤكد المؤرخ إبراهيم حركات في مقال نشر له بمجلة “دعوة الحق” بأن جامعة القرويين استقبلت منذ القرن الثالث عشر الميلادي أعدادًا كبيرة من طلاب “بورنو وكانم”. وهو الأمر الذي يؤكده المؤرخ الفرنسي جوزيف كوك في كتابه “تاريخ أسلمة غرب أفريقيا من النشأة إلى نهاية القرن السادس عشر” قائلاً “إذا كانت طريق التعبد توصل (السودان) إلى مكة، فإن طريق العلم والفكر تقود إلى المغرب، حيث كان السودانيون يشعرون بأنهم غير أجانب، مقارنة مع المشرق”.
جمهورية تشاد كدولة – أمة تقدّر بشدة مفهوم الحدود التاريخية وتدرك أهمية البعد التاريخي في بناء العلاقات الدبلوماسية، وهو الأمر الذي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تجاوزه أثناء تحليلنا لحدث إقليمي مهم يتمثل في افتتاح جمهورية تشاد لقنصلية عامة في الداخلة بحضور وفد تشادي رفيع المستوى، مما يؤكد عمق العلاقات المغربية – التشادية.
افتتاح قنصلية عامة لجمهورية تشاد في مدينة الداخلة هو ربط بين الشعبين المغربي والتشادي، وسير على نفس المسار الحضاري الذي نهجه أجدادنا قبل آلاف السنوات انطلاقًا من روابط تاريخية وحضارية ضاربة جذورها في التاريخ الأفريقي. كما أن هذا الحدث يترجم رغبة القيادة التشادية ممثلة في الرئيس محمد ديبي ابن الرئيس إدريس ديبي رحمه الله في تعميق العلاقات المغربية – التشادية والدفع بها إلى شراكة إستراتيجية قوية. حيث أن افتتاح هذه القنصلية يؤكد على صوابية الرؤية الملكية المستمدة من التاريخ الدبلوماسي للمملكة، حيث حرص العاهل المغربي الملك محمد السادس على بناء منظومة دبلوماسية قوية قادرة على تطوير آليات الاستجابة الفاعلة من أجل الدفاع عن المصالح العليا للوطن وخدمة القضايا المركزية للأمة المغربية بكل الجدية المطلوبة. وهنا يمكن لنا قراءة هذا الحدث من ثلاث زوايا أساسية:
المملكة المغربية تسعى في ظل هذا التنافس العالمي إلى خلق نوع من التوازن من خلال الحفاظ على استقلالية وسيادة قرارها الوطني في ظل قيم الانفتاح والتكامل، حيث تحاول المملكة العمل وفق أجندة أفريقية ذات أبعاد إنسانية وتنموية شاملة
أولاً – نجاح المملكة المغربية في تكريس نهج دبلوماسية القنصليات كورش سياسي اشتغلت عليه بشكل دقيق وفق مقاربة نوعية تهدف إلى ترسيخ مغربية الصحراء، وتترجم إرادة سياسية قوية لدى الفاعل المؤسساتي تهدف إلى جعل الأقاليم الجنوبية همزة وصل بين المغرب وعمقه الأفريقي وأحد الممرات الاقتصادية الآمنة والأكثر جاذبية للتعاون متعدد الأطراف في إطار جنوب – جنوب. وبفضل هذا النهج تحولت الصحراء المغربية إلى منتدى سياسي ودبلوماسي دولي وجسر لوجيستي عملاق للتعاون الاقتصادي بين دول الجنوب وممر حضاري إستراتيجي بين دول الشمال والجنوب. والأكيد أن دبلوماسية القنصليات ليست فقط مقاربة تستهدف فتح قنصلية في مدينة في الأقاليم الجنوبية، بل هي ترجمة فعلية لجهود المملكة المغربية من أجل توطيد ركائز الأمن البشري في الساحل والصحراء الكبرى وبناء منظومة إقليمية للتنمية المستدامة من أجل خدمة الشعوب الأفريقية.
ثانيًا – العمل النوعي الذي تقوم به الدبلوماسية المغربية وباقي المصالح من خلال الترافع المسؤول والجدي عن القضايا الوطنية والدفاع المستميت عن القضايا الإستراتيجية للمغرب. حيث استطاعت الدبلوماسية المغربية أن تشكل حائط صد حقيقي في مواجهة المؤامرات التي تستهدف الوحدة الترابية للمملكة. فالعديد من المؤشرات تؤكد على النشاط الدبلوماسي المكثف للمغرب في أفريقيا بشكل عام ومنطقة الساحل بشكل خاص، حيث تقوم الدبلوماسية المغربية بدور مركزي في الحفاظ على المصالح العليا للمغرب وفق مقاربة تشاركية مبتكرة جسدتها: الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل وكرّسها نهج القنصليات.
ثالثًا – الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل وفرت إطارًا جديدًا للتعاون الإقليمي في أفريقيا، مما عزز التفاعل والتنسيق بين الدول المعنية من خلال الرؤية الملكية التي تهدف إلى تعميق علاقات المغرب بشعوب المنطقة وتمتين الروابط الحضارية معها من خلال مقاربة جديدة ومبتكرة ترتكز على التأثير الإيجابي على مواقف هذه الدول في العديد من القضايا الإقليمية الملحّة مثل مكافحة الإرهاب وتطويق النزعات الانفصالية وتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز آليات التشاور السياسي والانتقال بمصادر الطاقة وبحث التغيرات المناخية، حيث يمكن لنا إدراج افتتاح قنصلية عامة لجمهورية تشاد في الداخلة في إطار التأثير الإيجابي للسياسات المغربية في أفريقيا المرتكزة على احترام سيادة الدول واستقلالية قرارها الوطني. وهنا يمكننا الوقوف على ثلاث مؤشرات أخرى توضح لنا طبيعة هذه التأثيرات ومدى توافق نتائجها مع السياسة الأفريقية للملك محمد السادس.
من الناحية الإجرائية والتقنية تهدف المبادرة إلى تعزيز التعاون والتكامل بين المغرب ودول الساحل: مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، وهي مفتوحة في وجه مختلف دول الجوار لتحقيق الغايات المنشودة من خلال تسهيل وصول الدول الحبيسة إلى المحيط الأطلسي بوضع البنية اللوجيستية العملاقة للمملكة في خدمة شعوب المنطقة. حيث أن هذه المبادرة تساهم في خلق مصلحة مشتركة وحافزًا لهذه الدول للعمل معًا وتساهم في تعزيز العلاقات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي بين هذه الدول على أرضية تنموية صلبة؛ فحدث افتتاح قنصلية تشادية في الداخلة يترجم هذا المؤشر. كما أن الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل تنسجم مع توصيات برنامج عمل فيينا لصالح البلدان النامية غير الساحلية ومع جهود مكتب الممثلة السامية للأمم المتحدة لأقل البلدان نموًا والبلدان النامية غير الساحلية والدول الجزرية الصغيرة النامية (UN-OHRLLS)، حيث أن أهداف المبادرة المغربية لدول الساحل تتطابق بشكل كلي مع “استعراض التعاون في ما بين بلدان الجنوب في تنفيذ برنامج عمل فيينا لصالح البلدان النامية غير الساحلية في العقد 2014 – 2024”.
يهدف برنامج العمل الجديد للبلدان النامية غير الساحلية إلى مساعدة هذه البلدان على التغلب على تحديات التنمية المستدامة التي تواجهها مثل تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية غير الساحلية من خلال تحسين النفاذ إلى الأسواق وتسهيل النقل والعبور وتحسين البنية التحتية الأساسية للنقل والتجارة، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية والموانئ الجافة. وتشجيع التكامل الإقليمي والتعاون عبر الحدود بين البلدان النامية غير الساحلية وجيرانها وتعزيز القدرات الإنتاجية والتنافسية للبلدان النامية غير الساحلية من خلال إنشاء مناطق تجارية حرة وتيسير التجارة. وتحسين الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في هذه البلدان لتعزيز الربط الشبكي والاتصال بالعالم الخارجي، وتعزيز التمويل للمشاريع التنموية في مجالات البنية التحتية والتجارة والإنتاج، وتعزيز القدرات المؤسسية والبشرية في البلدان النامية غير الساحلية لتحسين قدراتها على المشاركة في الاقتصاد العالمي. وكل هذه الغايات والأهداف تتضمنها المبادرة المغربية الخلاقة.
الدبلوماسية المغربية استطاعت أن تشكل حائط صد حقيقي في مواجهة المؤامرات التي تستهدف الوحدة الترابية للمملكة. فالعديد من المؤشرات تؤكد على النشاط الدبلوماسي المكثف للمغرب في أفريقيا بشكل عام ومنطقة الساحل بشكل خاص
من الناحية السياسية، هذه المبادرة تركز على مفهومين لهما دلالتهما وسياقهما الخاص في ظل التحديات التي تهدد الأمن البشري في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، مفهوم بنهج قائم على مبادئ “التنمية المشتركة” وآخر قائم على “الشراكة ذات المنفعة المتبادلة”. فعلى صعيد التنمية المشتركة، تعمل المملكة على تطوير وتنفيذ مشاريع تنموية مشتركة مع شركائها الإقليميين والدوليين في المنطقة بما يحقق منافع متبادلة ويعزز التكامل والتضامن بين مختلف الأطراف مثل مشروع أنبوب أفريقيا الأطلسي أو مشروع الربط الكهربائي الأفريقي أو طريق المغرب – أفريقيا الساحلي. وفي ما يخص الشراكة ذات المنفعة المتبادلة، فإن المغرب يسعى إلى إقامة علاقات شراكة إستراتيجية متوازنة ومنتفعة في مجالات متنوعة كالاقتصاد والتجارة والاستثمار والتعاون السياسي والأمني والثقافي، بما يخدم المصالح المشتركة للجميع، وهو ما تترجمه الإستراتيجية الأطلسية لدول الساحل التي تعتمد على “التنمية المشتركة” و”الشراكة ذات المنفعة المتبادلة”، بما يعني أن هذه المبادرة مصممة لخلق الترابط الاقتصادي ومواءمة المصالح المشتركة والمتداخلة بين المغرب ودول الساحل. وهذا سيؤدي إلى تكامل اقتصادي أعمق وروابط تجارية أكثر.
المؤشر الثالث متعلق بالعقيدة الدبلوماسية المغربية المحددة لطبيعة السياسة الخارجية للمملكة، حيث تمت صياغة هذه المبادرة باعتبارها تجسيدًا لانخراط المملكة المغربية في الحركية الدولية الداعية إلى تعزيز “تعاون جنوب – جنوب”. بحيث تترجم هذه المبادرة الخلاقة الرؤية الملكية لبناء مقاربة مبتكرة للتعاون تتجاوز العلاقة التقليدية بين المانحين والمستفيدين، والتي أثبتت فشلها تاريخيًا، بل بالسير قدمًا نحو بناء شراكات أكثر مساواة وتبادلية، بحيث تساعد هذه المقاربة على بناء جسور الثقة بين البلدان المشاركة.
اليوم، المملكة المغربية في ظل التحديات التي تواجه العالم، وبشكل خاص أفريقيا، وبالأخص منطقة الساحل والصحراء الكبرى باعتبارها امتدادًا جغرافيًا للمملكة المغربية وجزءًا سابقًا من حدودها التاريخية ومجالًا حيويًا للفعل الجيوسياسي المغربي في أفريقيا، تقدم نفسها كصمام أمان جيوسياسي للأمن الإقليمي بفضل السياسات المغربية تجاه دول أفريقيا، مما يجعل كل المبادرات المغربية نحو شعوبها محل ترحيب واهتمام. وما يدل على ذلك هو الاهتمام الذي حظيت به الزيارات الملكية إلى مختلف وجهات القارة الأفريقية، حيث كانت الجولة الملكية المغربية ساعة الصفر لبداية عصر أفريقي جديد عنوانه الوحدة والتضامن والتنمية. وكلنا متفقون أنه من خلال التعاون والتكامل الاقتصادي والسياسي بين دول القارة، يمكن أن تتحول أفريقيا إلى قوة عالمية فاعلة، تساهم في صناعة مستقبل العالم. وهذا لن يتم إلا باستحضار الإرادة السياسية والتمسك بالتضامن الأفريقي.
المملكة المغربية تسعى في ظل هذا التنافس العالمي إلى خلق نوع من التوازن من خلال الحفاظ على استقلالية وسيادة قرارها الوطني في ظل قيم الانفتاح والتكامل، حيث تحاول المملكة العمل وفق أجندة أفريقية ذات أبعاد إنسانية وتنموية شاملة تهدف إلى إعادة الصياغة الجيوستراتيجية، والعمل على أفرقة الحلول المطروحة للأزمات بشكل يتناسب مع تطلعات الشعوب الأفريقية في التنمية والازدهار. وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس في خطابه الموجه إلى عموم أفريقيا في القمة الاستثنائية للاتحاد الأفريقي بكيغالي في مارس/آذار 2018، قائلاً “إننا بصدد بناء أفريقيا الغد، التي سيرثها أبناؤنا من بعدنا. ونحن، إذ نقيم صرحها على أسس اقتصادية متينة، فإنما نسعى بذلك إلى أن تعود خيراتها بالنفع العميم على الشعوب الأفريقية بالدرجة الأولى. وإذا كنا قد قطعنا أشواطًا مهمة في بناء أفريقيا المستقبل وتأهيلها لتتولى زمام أمورها، فإننا مطالبون أيضًا بقطع أشواط أخرى على نفس الدرب حتى لا تظل تنميتنا الاقتصادية رهينة أهواء وإرادات خارجية”.