قمة عربية للدردشة والتقاط الأنفاس.. فليكن

تنظر السعودية الآن إلى مكانتها العالمية فتجد مكانة مهمة تستحقها لاعتبارات مختلفة. لا أحد يريد القول إن الرياض استثمرت بكثافة للوصول إلى كل هذا، لأن للسعودية أخطاءها الإقليمية، لكن أهم ما فعلته هو أنها قامت بعملية إصلاح ملموسة. هذه سعودية جديدة، ربما في وجه منها تراكم لتجارب وهفوات، وبعضها مطبات كان للبعض إقليميا دور في إنشائها. من الواضح أن ثمة زخما متراكما وأن الأفضل قادم وسيحقق أكثر.
لكن هل يكفي كل هذا؟ من الصعب الحكم. بالتأكيد الرياض تحتاج إلى المضي قدما في معالجة الكثير من التفاصيل التي تبدو صغيرة، لكننا شهدنا في العديد من المناسبات أنها أصبحت محطات عرقلة.
خذ مثلا العلاقة السعودية – الصينية. لا أحد يجادل في أهمية هذه العلاقة وحجمها. الصين بلد عملاق. ولكن هل الحديث عن عملاق صيني يكفي؟ لعل من الصعب الحكم. صعوبة الحكم لا تنحصر في الحجم، وإنما تعود أيضا إلى طبيعة تداخلات هذه العلاقة.
يراهن الصينيون مثلا على العلاقات التجارية، ويؤكدون دائما أن من أولويات العلاقة تجنب التدخل في الشأن الخاص. هذا منطق سليم للعلاقات بين البلدان، ولكن هل في عالم اليوم شيء من هذا مسموح به؟ توتر السعوديون كثيرا عندما اشتعلت العلاقة بينهم وبين الولايات المتحدة بسبب أزمة جمال خاشقجي التي أوصلت العلاقة إلى الحضيض. لا شك أن الأمور تركت لتهدأ، ثم أعيد ترتيب العلاقة وترميمها.
هل هذا يكفي للحديث عن علاقة متوازنة بين بلدين بهذا المستوى من التقارب؟ الانطباع الأولي هو أن إدارة جو بايدن كانت تريد تصفية ما يشبه الثأر من السعودية. وقبل أن يغادر بايدن البيت الأبيض، كانت الأمور قد عادت مقبولة ولا يمكن القول إن المسألة في نطاق أزمة.
◄ الإماراتيون نجحوا إلى حد كبير في منع انفراط العقد الإنساني لحالة الفلسطينيين في غزة واستمروا في تمويل وتأهيل الفلسطينيين في الضفة بشكل عام، لكن الأخطر والأهم في غزة
هذا النوع من الاهتزازات في العلاقة قد يبدو مفيدا على السطح لأنه يعطي فرصة لإصلاح العلاقة بدلا من ترك الأمور معتلة يمكن أن تتسبب في انفجارات مكتومة قد تتحول إلى كمية من المفرقعات. هذه ليست المرة الأولى؛ فقد شهدت العلاقات هزات كثيرة من هذا النوع، من يوم فيلم “موت أميرة” في مطلع الثمانينات، وصولا إلى مشكلات تأرجح الديمقراطيين الساذج، الذين صاروا يتفننون في افتعال أزمات بينية بين الولايات المتحدة بإدارة ديمقراطية والسعودية تنتهي من دون الرد على سؤال: ولكن لماذا بدأت أصلا؟
لا شك أن هناك عددا لا بأس به من السعوديين والأميركيين المخضرمين في سجل العلاقة بين البلدين. هؤلاء يستطيعون امتصاص الصدمات، ولكن لا يوجد ما يضمن ألّا تهتز العلاقة إلى نقطة مزعجة تترك الأمور معلقة وبلا حل، بل وبلا منطق للحل.
خذ مثلا مناصب الدبلوماسيين الإطفائيين التي يتولاها بعض من كبار شخصيات العائلة المالكة السعودية. بعضهم لا يزال فاعلا مثل الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق في واشنطن ورئيس جهاز الاستخبارات السعودية السابق، أو الأمير بندر بن سلطان السفير السابق ومستشار الأمن القومي السابق. هما شخصيتان مهمتان بلا أدنى شك. وقد أثبتا أن تدخلهما مهم. ولكن العمر يتقدم، والأشخاص يتغيرون، والعالم يتقلب.
يحتاج الفيصل، الذي ورث تركة أبيه وإخوته، إلى تجديد دوري للعلاقات التي يحظى بها في واشنطن. وقد يقال الكلام نفسه حيال ابن عمه ونسيبه الأمير بندر بن سلطان. لكن لو توقفنا عند محطة الوساطة السعودية – الصينية – الإيرانية التي مرت قبل عامين -كما تتذكرون- سنجد أن العلاقات ببعدها الصيني كانت قد تجاوزت الكثير وتحتاج إلى الأكثر.
ثمة بعد إضافي في مثل هذا النوع من الاستثمارات في العلاقة. فإذا نظرنا إلى شخصية مثل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، نجد أنه يريد أن يغير فكرة الإقطاعيات السياسية والدبلوماسية التي ورثها عن سنوات من الحكم “بالعرض”، أي عندما كانت السلطات تنتقل بين الإخوة عرضيا، وتذهب المسألة الأمنية إلى الأمير نايف بن عبدالعزيز إذا تعلق الأمر بالداخلية أو تذهب إلى الأمير سلطان بن عبدالعزيز في العلاقة مع اليمن أو صفقات الأسلحة مع وزارة الدفاع من بين أمثلة.
الصينيون مثلا يعرفون القرار الذي اتخذه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بإنهاء التمدد الإقطاعي العائلي جانبيا، وأنه تم حصره في أسرة الملك: ولاية العهد بيدها رئاسة الوزراء والعمل من خلالها على تولي السلطة المطلقة في أكثر من قطاع، وتشمل الدفاع والصفقات الكبرى وصولا إلى مفصل جوهري هو التحكم بمصير الاستثمارات في الطاقة وإعادة توجيه هذه الاستثمارات ضمن خطط تشبه ما صار يعرف بمشاريع “رؤية” كما هو الحال في الإمارات وعمان وقطر وغيرها.
هنا نذهب أبعد، لأن من الضروري الرد على ماذا بعد سياسيّا. فاللاعب الأكبر الآن هو ولي العهد والذي يترك الباب مفتوحا للقادم الشاب ليأخذ مكانه.
◄ إن للسعودية أخطاءها الإقليمية، لكن أهم ما فعلته هو أنها قامت بعملية إصلاح ملموسة. هذه سعودية جديدة
أين نذهب بهذه الصيغة؟ الرد مباشر ولا يتحمل تأويلات. فالسعوديون مثلا يتعاملون مع عالم جديد ينبض بالمتغيرات. عندما يتعلق الأمر بما سيحدث، فإن العاهل السعودي سيوكل المهمة لولي العهد ويتركها له جملة وتفصيلا. وعندما اشتعلت جبهة الحرب بين الغرب والشرق في أوكرانيا، فإن ملف الحرب هو ملف حصري على مكتب الأمير محمد بن سلمان. وعندما ترك الأمر ليأخذ وقته على مدى سنوات، فإن كل الدائرة المحيطة بولي العهد السعودي، تركت الأمر له، وصار الأمر قرارا سياديا لا يبت فيه حتى إخوته. واليوم، عندما انتهى “الطيش” الديمقراطي في ملف أوكرانيا، تم تفعيل الملف حيثما ترك وبيد من ترك، كي يعود إلى صاحبه “الشرعي” و“الوحيد.”
هل يقرأ الصينيون الأمر مثلا من هذا الباب وهذه الزاوية ليستطيعوا الرد: نعم، هكذا تؤخذ الأمور في السعودية وهذا ما يجعلها تعود إلى وضعها المستقر. هذا النوع من الاستقرار الذي طالما سأل العالم نفسه عن قدرة الخليج على استدعائه كلما دعت الضرورة، هو أساس من أساسات الحكم والسكينة في المنطقة، وليس كما يظن البعض بأنه عبارة عن نوع من شراء الولاءات والذمم.
هذا ما يجعل شخصية استخبارية مخضرمة مثل فلاديمير بوتين تعود الآن وتطرق باب السعودية وتقول لقادتها: لقد تخبط الآخرون كثيرا، ونحتاج إلى لملمة الملفات. وهذا أمر ليس بالشأن الهين، لأن لكل شيء علاقة بالنفط والطاقة والتمويل، ومع كل مفصل هناك سلسلة تشعب للقرارات تحتاج أن تؤخذ بعين الاعتبار بلا أدنى شك.
ثمة سلسلة من أولويات التفكير الداخلي السعودي نشأت على مدى سنوات طويلة. يمكن أن تضع الكثير من الملاحظات على طريقة الحكم السعودية. ولكن من المؤكد أنك لا تستطيع أن تقول إنها مؤسسة قرار مرتجل. السعوديون يخطئون بالتأكيد مثل كل السياسيين في المنطقة والعالم، ولكن مع مرور الوقت تعلموا كيف يتراجعون عن أخطائهم.
ومع الأخطاء، بل ومع تصحيحاتها، تعلموا كيف يتأقلمون مع ردود فعل الآخرين، وخصوصا الحليف الأول وهو الولايات المتحدة لكيلا تتكرر، أو على الأقل لا يُرتكب مثلها بلا مبرر يستحق.
اليوم يقف السعوديون على مفترق طرق. لقد حسموا الكثير من التفاصيل في ما يتعلق بكيفية التعامل مع الولايات المتحدة وأين سيسمحون باحتكاك عالٍ لو تطلب الأمر، أو أن يبتعدوا عنه عندما يجدون أن هذا الاحتكاك مضيعة للجهد والمكانة.
محصلات التراكم هذه اليوم تخضع لاختبار مهم. ثمة إدارة أميركية “جديدة” بخبرة تعامل متجددة يمكن العمل معها دون معوقات كبيرة. هذا التراكم فيه الأمني والاقتصادي والسياسي، ولكن فيه العامل الإستراتيجي المهم وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالصين، اللاعب الدولي الأهم الآن مهما حاول الآخرون أن يضعوه في فئة “الورشة” أو مصدر “التمويل”. للصين حقها في التواجد العالمي كقوة عظمى مهما حاول الآخرون محاصرتها.
معرفة كيف تقرأ الصين نفسها مثلا، تعتمد إلى حد كبير على معرفة كيف تحاول روسيا قراءتها لنفسها. هذه مسألة ليست هينة، لأن هذه القراءة باتت بحد ذاتها عملية متغيرة لا تتوقف، وربما ليست الحادثة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة.
السعودية نفسها، مثلها مثل روسيا والصين، تعيد قراءتها لنفسها وتقول ها أنا في عالم اليوم. هذه ليست دولة فتية وحسب، بل لديها خطة مهمة لتصبح قوة إقليمية كبرى تحتك بأخريات مثل تركيا وإيران وتريد أن تثبت أن عالم اليوم الذي يضمها ليس في وارد إهمالها. هل ثمة من يفكر في أن يضع السعودية على الرف عندما نقول أوبك+ مثلا؟ كم دولة في العالم تستطيع أن تسحب تريليون دولار أمام طاولتها وهي تراهن على صفقة؟
يمكن أن تتعثر السعودية في قرارات إستراتيجية، فهذا أكثر من طبيعي. ولكن لدى السعودية ما يكفي من الموارد والقدرات التي تجعلها تستمر وتواصل.
◄ هذا النوع من الاستقرار الذي طالما سأل العالم نفسه عن قدرة الخليج على استدعائه كلما دعت الضرورة، هو أساس من أساسات الحكم والسكينة في المنطقة
هل السعودية الآن جسر عابر للقرارات الإستراتيجية الكبرى؟ لا يوجد أدنى شك في أنها كذلك. ولكن لديها بالإضافة إلى كل هذا إمكانيات ذاتية هائلة، إمكانيات تتجاوز الحديث عن مكانة سمسار لصفقات إلى قوة اقتصاد عالمية مهمة وأساسية، بكل ما يعنيه هذا من مشاكل ومخاطر.
هذا يعيدنا إلى نقطة فارقة. الخليج هو الهدوء الآن. الإشارة إلى العامل السعودي مهم. لكن ما يصح للسعودية، ينطبق أيضا على الإمارات وقطر. الإماراتيون نجحوا إلى حد كبير في منع انفراط العقد الإنساني لحالة الفلسطينيين في غزة واستمروا في تمويل وتأهيل الفلسطينيين في الضفة بشكل عام، لكن الأخطر والأهم في غزة. جرى كل هذا من دون أن يبدو الحد الأدنى من التأثر من سلاطة لسان الفلسطينيين -للأسف الشديد- الذين أمعنوا في لوم الجميع وفي استدعاء بطولات يحيى السنوار التي جرّت على غزة وأهلها كوارث تتقازم إلى جانبها كوارث نكبة 1948 ونكسة 1967 من بين دمار موسمي لا ينقطع من حملات إسرائيلية لا تتوقف.
القطريون أيضا يحسب لهم -وقل ما تقوله عنهم- أنهم تمكنوا من تحقيق غايتهم في استكمال ما وعدوا به من مفاوضات. وها هم يجبرون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الالتزام (ربما المتلكئ) ببنود الهدنة في انتظار الفصل الأخير. هذه مسألة ليست هينة مع عدو مراوغ مثل إسرائيل التي تعلّمت عبر السنين فن التملص من المسؤولية.
يمكن أن تكيل ما تكيله من لوم للعرب وأن تقف حائرا أمام صورة جامدة وزعت بالأمس عن لقاء لزعماء عرب في قمة عربية اكتشفنا أنها لدردشة عابرة. لكن هذا أقصى ما يمكن تحقيقه في الوضع الراهن الآن. سيكون هناك المزيد وسيتم البناء على أمل المزيد. إنها في النهاية غزة وهذه فلسطين، هذه قضية لا تتوقف عند يوم أو شهر أو سنة. إنها قضية عابرة للقارات والأزمان. يجري هذا رغم أن المنطقة نفسها مليئة بالمشاكل.
خليج هادئ قد يكون نقطة انطلاق لعالم عربي هادئ وعالم أهدأ. تعب الجميع وحان وقت الاستراحة.