قصص عن إدمان وسائل التواصل والعلاقات المعقدة

تتجه الرواية المعاصرة أكثر إلى عوالم الأفراد واهتماماتهم التي نعتقد بأنها هامشية، بينما هي لبّ القضايا الكبرى، لذا اختار الكثير من الروائيين الغوص في نفسيات شخصياتهم في أبعادها الفردية والاجتماعية، لفهم علل المجتمع وتفكيك ما يعانيه أفراده اليوم، في عالم يشكو مفارقة غريبة حيث زادت في لحمته التكنولوجيا، كما عمّقت تفككه بترسيخ عزلة الأفراد وانعزالهم. عالم العزلة والعلاقات المتشابكة والتناقض الصارخ والأزمات النفسية هو ما أسست عليه الروائية السعودية زينب الخضيري روايتها “على كف رتويت”.
تستهلّ زينب الخضيري روايتها “على كف رتويت” بحلم غريب لأحد أبطالها؛ علي، يحلم بأنّه يختلي مع امرأة تعرّف عليها في غرفة بفندق، ويهاجمه أحدهم ويضربه بعنف، ثم يتركه ملقى هناك، ومن ثمّ حين يحاول الخروج، أو الهروب، يقع في هاوية الجحيم… وفي أعقاب الإفاقة من الكابوس، يحار عليّ في ما عاشه من لحظات كارثية في حلم ظل يراوده في يقظته طويلا.
تحكي الخضيري عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياة الناس، وكيف أنّها ساهمت بقسط وافر في إحكام العزلة والوحشة على حياة الكثيرين ممّن ينشطون فيها، بحيث خلقت فجوة بين واقعهم الحقيقي وعالمهم الافتراضي الذي يتقمّصون فيه شخصيات مختلفة عن شخصياتهم الحقيقية، ويبنون قصورا من الأوهام أحيانا، أو يجدون فيها متنفّسا يريحهم من أرق أيامهم وقسوة واقعهم ليستعذبوا أمانا متوهّما يرون فيه راحة وسعادة بديلا من حياتهم البائسة.
كما تحكي الخضيري قصصا عن إدمان وسائل التواصل، وبخاصة إدمان تويتر، وكيف أنه يبقي صاحبه في مستنقع الافتراض والتمثيل، بعيدا عن أرض الواقع، بحيث يهندس لنفسه قصورا في رمال متخيلة لا تمتّ بأيّة صلة للواقع، وترسم مسارا متوهّما لما يريد صاحبه أن يكون عليه، لا ما هو عليه حقّا.
أقنعة ووجوه
ترصد صاحبة “رجل لا شرقي ولا غربي” حالات من التيه والضياع تجتاح شخصيات ذكورية وأنثوية في عالمها، بحيث تتبدّى وكأنّها طارئة وثقيلة في بعض المواقف، وبائسة حيث تقع ضحية أفعال غيرها في مواقف أخرى، وذلك من خلال التركيز على دائرة الفرد ومحيطه الاجتماعي، وحركته في عالمه الافتراضي الذي يثقل كاهله ويحمّله أعباء مضاعفة زيادة على أعبائه.
ترمز الخضيري في عنوانها إلى حالة اختلاف الأمزجة التي تواكب مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وواقع حالات التبدّل السريع الذي يرسم خرائط نفسية واجتماعية مشوبة بالنقائض والغرائب، فأن يكتب أحدهم نكتة هنا ليبادله آخر في مكان بعيد بضحكة وثالث بردّ فعل مختلف، بحيث يكون التغريد بمثابة جسر للفصل والوصل معا، وتمكين مهمّشين من إيجاد موطئ كلمة لهم في عتمة مواقع التواصل وزحامها.
تدير الخضيري نقاشا بين بطليها علي وسامي عن وسائل التواصل وتأثيراتها على الناس وجدواها بالنسبة إليهم، تقول على لسان علي “إن سهولة التواصل أدّت إلى عزلة الأفراد وانتشار اللاتواصل”، وتشير على لسان سامي إلى اللعنة التي ترافق الكاتب، وكيف أن الكتابة مهنة لها بورصتها والمستقبل يفتح الشهية أكثر، ستكتب كثيرا وستموت فقيرا.
هناك من الشخصيات أيضا الجدّ الحكيم الذي يطلق وصاياه، ويخبر غازي الذي كان والده قد هجره وأمّه، وتزوّج وأنجب من امرأة أخرى، واختار حياة جديدة، ويطلب منه أن يسامحه، وأنّ ابن الصحراء، ذلك الإنسان النقي النبيل الذي لا يهزمه الجفاف ولا الحرارة، ذاك الذي يحمل وطنه معه أينما رحل، ويقول “الصحراء لغة لم نتعلّم بعد استنطاقها، فهي يا بني حياة من نوع آخر. هل رأيت بدويّا مصابا بالاكتئاب؟”.
إدمان وسائل التواصل كما توضحه الرواية يبقي صاحبه في مستنقع الافتراض والتمثيل بعيدا عن أرض الواقع
ثمّ يخبره كذلك أنّ “الوطن يا بني هو المشترك الذي يحرّك الناس كالثقافة والتنظيم الاجتماعي والضوابط السلوكية، وقيمة المال ليست شيئا أمام قيمة الوطن، والسعادة هي سعادة القلب والروح والمحبة والتسامح. لا تحقد على أبيك ولا تكرهه يا غازي، أنت كبرت الآن، والدك طيب ولكنه غافل ولا مسؤول، فلا تكن أنت والدنيا عليه”.
تحكي الروائية عن نماذج من الشخصيات التي تعيش بعدة وجوه وأقنعة، تضع بعضها في الخارج، وتبقي أخرى في داخل بيوتها، بحيث يكون التناقض سافرا بين تلك الأقنعة التي تضعها هنا وهناك، كحالة رضا الذي كان مهتمّا جدّا بنموّ تجارته، يعيش حياة رتيبة بلا مشاعر، حياة تخلو من العاطفة والمحبة، كل ما يحكمها المال ولا شيء يعلو على صوت المال، فهو يقيّم الناس على هذا النحو: كم رصيد هذا الشخص في البنك؟ في حين كان في الجانب الآخر أبا سيّئا ورب أسرة فاشلا.
حياة موازية
رضا والد سامي وغازي، لكن لكل ابن عالمه وحكايته وهمومه ومشاغله، وهناك فصل بينهما، بحيث لا يعرف أحدهما الآخر، ولا يحدث تقاطع بينهما، غازي منغمس في عالم القراءة يجد فيها سلواه وراحته، يعيش في جنان الكتب، بعيدا عن جحيم واقعه، نصيبه من والده الإهمال والهجر، في حين أن نصيب أخيه سامي من والده مختلف بشكل كبير.
تعيش أسرتا رضا التائه في تناقض صارخ، أسرة تعيش حياة الرفاهية والرخاء وأسرة تعيش الفقر والاحتياج وتعاني مرارة القهر، “الأولى تواجه الشتاء بالمعاطف الأوروبية الفاخرة، والثانية تواجه برد الشتاء بنار الصبر، واحدة تنام على ريش النعام وأخرى على الحصير”.
يعمل غازي بتفانٍ ويمضي ساعات طويلة يشقى في محاولة لكسب رزقه، في حين أنّ سامي يستحوذ على كل تفاصيل حياة أسرته، أصبح الآمر الناهي، ولم يعد والده يتحمل ما يفعله ابنه فأصبح يتحاشاه ويقلل من الاصطدام به، وفقد حماسته لعقد الصفقات والمغامرات التجارية، واستمر سامي في التسلط والتجبر حتى أجبر والده على توكيله بشكل عام في إدارة الشركة والأموال، وأصبح رئيس مجلس الإدارة والوكيل الشرعي، ليبدأ فصلا جديدا من حياته.
يكتشف سامي عالم تويتر، يؤثّث حياة موازية هناك، يتواصل مع امرأة تسمي نفسها العنود الودود، تستمع إليه كثيرا ولا تعاتبه إذا غاب، يجد رابطا بينها وبين أمه، ويشعر بالملل من زوجته جومانا التي تعميها شهوة المال والسلطة، جمعه معها شيطان المال، هو لا يطيق لسانها السليط وهي لا تحترمه، لكن العنود تكون له بمثابة المرأة الحلم التي تعيش في داخله. وتراه يقول لنفسه إن المشهد في حياته تحوّل إلى رحلة عبثية يسوقها توق معاند يائس إلى قعر التشاؤم، بعدها انشغل بالعنود وحكاياتها، وأخذ كل وقته، يعيش حزنه على أمه من خلالها.
الشخصيات النسائية بدورها تحضر بصور مختلفة، تصل حدّ التناقض، تعكس نماذج متعدّدة، مثلا بدرية التي تتواصل مع سامي، تعيش حياتين كغيرها من الشخصيات التويترية، تخاف الليل لأنه شريك وحدتها، وهو مساحتها التي تخبّئ فيها كل نزقها، يفترسها غول الجفاف العاطفي، وهي محرومة من الحب والحنان والضحك، تختبئ من الناس ومن حياتها خلف هاتفها المحمول وشاشة الكمبيوتر اللذين يشكلان عالمها الحقيقي الذي تكون فيه كما تحب.
تفصّل الروائيّة سردها بعد تفكيك العقد النفسية لشخصياتها وترسم مصائرها، وتخرج أبطالها من قواقعهم إلى واقع الحكاية، من دون أي ترقيع أو تجميل، تصوّرهم بهمومهم وكوارثهم، بمآسيهم وكوابيسهم، وكيف أنّهم يقعون صريعي أفعال غيرهم ومخططاتهم بالموازاة مع تخبطهم الذي يتجدّد مع كل واقعة تجتاح حياتهم.
تعيد في النهاية ربط خيوط الحكايات وتشبك مصائر الشخصيات لتعيدها إلى جذر البؤرة الحكائية نفسها التي انطلقت منها، فغازي يتعرّف على أخيه في موقف أليم، يمضي إلى المستشفى بعد حادث تعرّض له، وهناك تعود به الذاكرة إلى محنته مع أمّه، وكيف أن أخاه استحوذ على ثروة والده، وأنّ كليهما لا يتحمّلان مغبّة أفعال والدهما التائه الذي كان له من كنيته نصيب كبير، وينقل ذاك التيه إلى أولاده من بعده.