"حرب السولجر" ذاكرة تقاوِم النسيان.. بين الوثيقة والذاكرة الشعبية

الإماراتي عبيد بوملحة يعيد رسم ملامح الخليج قبل أكثر من قرن.
الثلاثاء 2025/04/15
استعادة الذاكرة التاريخية

إن كتابة التاريخ في الرواية مختلفة عن كتابته من قبل المؤرخ، فالأخير يورد التاريخ جافا كما هو الحدث والزمان والمكان، بينما يبث الروائي الحياة في تلك الأحداث ما يجعل من التاريخ مادة خصبة للفهم وإعادة الفهم، وهذا ما برعت فيه روايات كثيرة متفوقة على ما كتبه المؤرخون، ومن هذه الأعمال رواية "حرب السولجر."

يستدعي الروائي الإماراتي عبيد بوملحة في روايته “حرب السولجر” لحظة دامية من تاريخ مدينة دبي في بدايات القرن العشرين، حين داهم الجنود البريطانيون منازل أهلها، وانفجرت مواجهة خلفت جراحا بقيت في الذاكرة الشعبية، لكنها لم تأخذ مكانها المستحق في السرديات المكتوبة.

“حرب السولجر” تستنفر الحدث التاريخي الذي جرى في دبي يوم 24 ديسمبر 1910، حين داهمت القوات البريطانية منازل شيوخ وتجار بارزين، مثل الشيخ أحمد بن دلموك والتاجر ثاني بن خلف، بذريعة البحث عن أسلحة مخبأة. وتشير إلى أن الهجوم الوحشي الذي أفضى إلى قتل وجرح العشرات، لم يكن مشهدا دمويا عابرا، إنما كان حدثا مفصليا في علاقة مدينة بمصيرها، وشعب بذاكرته، وهي لحظة ما كان لها أن تختصر في فقرة أرشيفية، فتأتي الرواية لتعيد لها اتساعها الإنساني وألمها المتوارث.

تفكيك الماضي

تضيء الرواية، الصادرة عن دار ملهمون، دبي 2025،  على تلك الحادثة الأليمة من خلال عدسة إنسانية وشعرية، إذ تتخذ من الشاعرة هداية الساجوب بطلة للرواية وراوية لأحداثها، لتكون بمثابة “ضمير جمعي” يعيد نسج الوقائع والبطولات الشعبية بروح التأمل والتوثيق، بعيدا عن الحماسة الخطابية أو التصوير الفلكلوري الشاعري.

في مفتتح الرواية، يضع الكاتب إهداء مقتضبا غامضا: “إلى الـ37”. من دون ذكرأسماء أو تفسيرات. وكأنه يودِع السر في صيغة رقمية، تاركا للقارئ أن يتأمل الرقم كما يتأمل رمزا على قبر بلا شواهد. من هم هؤلاء الـ37؟ هل هم أولئك الذين لم يكتب لهم أن يذكروا في نشرات الانتصارات ولا في سجلات الشهداء؟

والإهداء/ الرقم يفتح النص كجرح. وحين يستحضر في ضوء ما وقع يوم المعركة، يصبح جليا أن المقصود بهذا الإهداء هم الضحايا السبعة والثلاثون الذين قتلوا في تلك المواجهة العنيفة مع القوات البريطانية. ولا يشير إليهم الكاتب بأسمائهم، كأنما يحفظ لهم كرامتهم بالصمت، ويمنحهم حضورا كثيفا عبر الإشارة لا التفصيل، ويأتي في سياق تكريم الغائبين، ومخاطبة من غابوا بلغتهم، وحفظ ما تبقى منهم في الحكاية.

ما يلفت في “حرب السولجر” أن الروائي لا يكتفي بإعادة سرد ما جرى، بل تراه يعمل على تفكيك التواطؤ بين النسيان والزمن، فيدخل إلى تلك الواقعة من موقع الروائي الذي يضع الإنسان في قلب العاصفة، ويشيد عالمه الروائي من تشظيات الحدث، وتفاصيل الحياة اليومية، وأصوات النساء والرجال الذين لم تكتب حكاياتهم بعد، ينقل ملامحهم، خوفهم، صراخهم، طعامهم، طقوسهم وأساليب معيشتهم. هذا الحضور المكثف للتفاصيل هو ما يمنح الرواية طابعها الإنساني العميق، ويجعل من القارئ شريكا في التجربة، لا مجرد متلق لمعلومة تاريخية.

في هذه الرواية، لا يقف التاريخ عند حدود الوثيقة، إنما تُختَرق سرديات السلطة من خلال أصوات المهمشين، عبر ما ترويه الشاعرة هداية، وهي الشخصية المحورية التي تستدرج من مقام الشاعرية إلى مقام الشهادة. لا تكتفي هداية بنقل الحدث، بل تعيد تفكيكه بلغتها، بعينها، بمزاجها، بمخاوفها، بصوتها المتردد ما بين القصيدة والصرخة. هي راوية وشاهدة، تشكل جسرا بين الزمنين: زمن ما جرى، وزمن الحكي عنه.

يعيد بوملحة رسم ملامح المدينة، وينصت لتفاصيل الحياة اليومية في دبي تلك المرحلة، من المعيشة والأسواق والعلاقات الاجتماعية، إلى البعد الشعري الذي تمثله الشاعرة هداية، وفي هذا التوظيف، يتجلى البعد الجمالي للرواية، حيث لا يبقى الحدث التاريخي حجرا ثقيلا في يد الكاتب، إنما يتحول إلى مادة خام تعاد قولبتها عبر أدوات الفن.

تدخل الأسطورة الشعبية، واللغة المحلية، والصور الشعرية، في نسيج الرواية، لتشكل طبقة سردية لا تقل أهمية عن طبقة الحدث الأصلي. وهنا يمكن القول إن الرواية لا تستنطق الماضي لتأبيده، إنما تفتحه على احتمالات القراءة والتأويل على ضوء الحاضر.

اللافت في الرواية كذلك هو توظيف اللغة كهوية، إذ يحرص الكاتب على إدخال تعبيرات محلية وصور مستوحاة من الموروث الشعبي، دون أن يثقل السرد أو يربكه، بل يجعل من العامية جسرا للتواصل مع الروح الجمعية، ويقدم شخصيات من لحم ودم، لا من ورق أو تماثيل.

شهادة من الذاكرة

تضم الرواية عشرات الأبيات من الشعر الشعبي، تستحضر في لحظات مفصلية، لا كزينة لغوية، ولا كفاصل جمالي، وإنما كامتداد لصوت الأرض والناس والذاكرة الجماعية. وحين يستدعي الروائي هذا الشعر، فهو لا يبحث عن سلطة لغوية مستعارة، وإنما ينصت لما قيل واندثر، ويعيد صوغه داخل نسيج روائي يطمح إلى أن يكون معبرا للهوية لا ساحة للتماهي. فالشعر الشعبي هنا لا ينوب عن السرد، إنما يتشابك معه، يضبط إيقاعه ويعطيه لونه المحلي الخاص.

ثمة مشهد بالغ الدلالة حين تصف الرواية علاقة هداية بزوجة الضابط الإنجليزي، ميري، التي كانت تتحدث العربية، وتتعاطف مع السكان، وتساعد المرضى، وتقيم علاقات إنسانية تتنافى مع صورة العدو الكولونيالي. فتبدو هذه العلاقة تجسيدا مؤلما للتناقض: الغزو من جهة، والتعاطف الإنساني من جهة أخرى. وهداية، رغم صدمتها، لا تنكر هذا الوجه، لكنها لا تنسى أيضا اليد التي ضغطت على الزناد. هذا التداخل بين الضحية والآخر، بين المأساة والدهشة، يمنح الرواية بعدا أخلاقيا عميقا، ويحولها إلى مساحة للتفكر في ما يتجاوز الخير والشر في صيغتهما الساذجة.

تغدو الرواية، من خلال هذه المقاطع، شهادة على كيفية تداول ما حدث في الذاكرة الشخصية والجمعية. فهداية لا تستسلم لزمن التقويم، وإنما تختار أن تدون زمنها الخاص، الزمن الذي يقاس بما فقدته، لا بما سجله المؤرخون.

وفي النهاية، تختتم الرواية بمشهد لا يشبه الخاتمة بقدر ما يشبه نشيد الـوداع الطـويل. الشـاعرة هداية الساجوب، التي كـانت على مدار الرواية راوية وشاهدة، تصبح في لحظاتها الأخيـرة شهيـدة للـذاكرة. لا تسقـط بطلقة ولا تغيب في مشهد درامي صاخب، إنـما تنحل في السرد كمـا تنحل الـقصيدة في مغنـاها الأخير.

عاشت تروي الأحداث بلغتها، تبكي تفاصيلها المؤلمة، وتحنو عليها كمن يقبل جرحا قديما. ومع كل ذلك، لم تغلق الباب على اليأس، بل استبشرت بأهل البلاد الذين نهضوا من تحت الأنقاض، وحملوا الذاكرة كزوادتهم في وجه النسيان. وبهذه النهاية، لا تختتم الرواية، وإنما تفتح على طبقة أخرى من المعنى: إن من يروي لا ينجو بالضرورة، لكنه يمنح الآخرين فرصة النجاة بالوعي، بالحكاية، بالصوت.

تكمن أهمية هذه الرواية في أنها لا تحصر نفسها داخل قوقعة الحكي عن واقعة معزولة، إنما تسعى إلى استعادة الذاكرة التاريخية لشبه الجزيرة العربية والخليج، وتستحضر سقوط جزيرتي لنجة وهنيام في يد الإيرانيين كجزء من السياق السياسي الأكبر، حيث تتشابك الأطماع الاستعمارية والإقليمية، ويكون الخليجي البسيط في قلب هذه العاصفة الجيوسياسية، حاملا بندقيته أو شعره أو صموده كأدوات بقاء.

يضع الروائي في نهاية عمله قائمة مفصلة بالمراجع والمصادر التاريخية التي استعان بها، من كتب ودراسات تناولت تلك الحقبة المضطربة من تاريخ الخليج، إلى جانب إشاراته إلى لقاءات شخصية أجراها مع أبناء تلك المرحلة أو أحفادهم، في محاولة واضحة لجعل الرواية نتاجا معرفيا قائما على التفاعل بين الوثيقة والذاكرة الحية. هذه اللفتة تكشف عن وعي المؤلف بدقة اللحظة التي يتعامل معها، ورغبته في بناء سردية موازية تنقذ ما يمكن إنقاذه من التواريخ المغمورة في الظلال. كما أن هذه الإحالة إلى مصادر موثوقة، لا تهدف إلى إثبات الصدقية، بل تظهر جدية المشروع السردي، واتكاءه على أساس معرفي يعزز من قوته التأويلية.

12