قصص المسلسلات وعناوينها تغيّرت إلا أن الأداء واحد

لا يمكن للممثل إيصال دوره الدرامي للجمهور إلاّ بأداء طبيعي يبتعد عن المغالاة والمبالغة والتقليد، وتقمّص الشخصية بصدق والإلمام الكامل بأبعادها النفسية والتاريخية والفكرية، حتى تنتقل المشاعر ذاتها إلى المُشاهدين لتثير التعاطف الوجداني وتوضّح السياقات التي تحكم التصرّفات وتبرّرها.
القاهرة - لا يحمل بين العشرات من الممثلين المصريين الذين نشطوا في الموسم الرمضاني المنتهي حديثا لفظة “قدير” إلا عدد محدود منهم يعزف برشاقة على أوتار الشخصيات، ليقدّم كل منها بشكل خاص وتلقائية صادقة وانغماس كلي، وأداء يشبه بصمة الأصابع ولا يتكرّر مهما تزايدت أعداد المنافسين، ومهما اقتربت الأعمال من بعضها في المضمون والفكرة.
ودأب الفنان محمد رمضان على ثيمة ثابتة في غالبية أعماله الدرامية، من خلال دور الشاب الفقير الشجاع الذي يصطدم بمراكز القوى فيهرب من الظلم حتى يستجمع قواه، ويعود لينتقم من الجميع معتمدا على قوة ذراعيه وليس سطوة القانون، وفي الموسم الدرامي الرمضاني الأخير تحدّث عن تغيير جلده من أجل الجمهور في قصة “موسى” المُغايرة، والتي تتضمّن صراعا مع القوات الإنجليزية المحتلة لمصر إبان الحرب العالمية الثانية.
ومع مرور الحلقات هربت الفكرة الجديدة فأصبحت مجرد “بهارات” لتحسين طعم الوجبة دون تغيير في مكوّناتها، ليعود الممثل إلى منطقته الدافئة التي يجيد التعبير عنها إذ هو القوي معشوق النساء، والمجيد لخلق الأعداء أينما تخطو أقدامه، ولا يعبأ بهم جمعيا بقدرته المستمرة على قهرهم مهما بلغ عددهم، ومهما تزايد نفوذهم.
محاكاة الببغاوات
يمثل محمد رمضان نموذجا لقطاع من الفنانين يكرّرون الدور نفسه منذ ظهورهم على الساحة الفنية ويعجزون عن تغيير طبيعة الأداء مهما تباينت القصص، وبعضهم يجنح إلى تقليد ممثلين قدامى في حركاتهم وردود أفعالهم، ليصبح التمثيل مجرد “محاكاة ببغاوات” لتجارب فنية سابقة دون استحداث الجديد أو إظهار روح البشر وتقلبات مشاعرهم.
وتنبع مشكلة التقليد التمثيلي في كون الأداء رد فعل للأحداث ومدى قوتها، فالانفعال المرتبط بخسارة إنسان لمبلغ مالي أقل بكثير من شعوره حين يفقد حبيبا، وظهرت تلك المشكلة بقوة في الموسم الدرامي الأخير الذي تضمن مبالغات تمثيلية تفوق التصوّرات العقلية والمنطقية بمساحات واسعة.
وتتّضح تلك المشكلة مع محمد عادل إمام الذي منذ ظهوره في الساحة الفنية لم يستطع حتى الآن الخروج من عباءة والده، فيكرّر حركاته برفع الحاجب الأيسر في لحظات الاندهاش، وتوسيع عينيه للتعبير عن التقزّز، أو الابتسامة الساذجة التي يعبّر بها عن القيام بعمل مجبر عليه من دون حرية الاختيار.
ويبدو أداء إمام الابن في مسلسل “النمر” أشبه بمحاكاة لأعمال الحركة السينمائية التي أدّاها والده عادل إمام في شبابه، مع اختلاف بسيط في العضلات التي يملكها الفنان الشاب وجعلته أكثر منطقية من والده الذي كان ضعيفا بدنيا ويهزم عصابة كاملة بذراع واحدة والأخرى مقيّدة.
ولا ترتبط المحاكاة بعلاقة الدم المعتادة التي تجعل فنانا منذ صغره متعلقا بأداء والده مثل الفنان هيثم أحمد زكي، فوالده يُحاكي أداءه في الوسط الفني حاليا العديد من الممثلين في مقدّمتهم عمرو سعد ومحمد رمضان ذاته، ويتكرّر الأمر مع الفنان مصطفى شعبان الذي يقلّد منذ قرابة العقد تجارب الراحل نور الشريف، منذ أن عملا معا في مسلسل “الحاج متولي” على مستوى التمثيل ونوعية الأدوار التي يقدّمها، وعلى رأسها الرجل المزواج الذي تتصارع زوجاته على اقتناص قلبه قبل ثروته.
وقبل ثلاثة أعوام أثار الفنان خالد النبوي جدلا كبيرا عندما أعاد نشر صور له على موقع التواصل الاجتماعي من فيلم “المصير”، والتي تشابهت تماما مع نفس صورة أحمد عز في مسلسل “أبوعمر المصري”، معقبا بعبارة “النحيت”، في إشارة إلى تقليد الأخير له في الدور وتؤكّد أن المحاكاة أصبحت لأجيال لا تزال على قيد الحياة.
ولا تتوقّف المحاكاة التمثيلية في دراما رمضان عند الأداء فقط، لكنها امتدت لتشمل الاسترجاع الفني للأعمال السابقة ورموزها ليظهر ممثلون راحلون عن الحياة مجدّدا عبر الصور في إقحام درامي هدفه التلاعب بنوستالجيا الماضي مثل ظهور الفنانين الراحلين نور الشريف ومحمود مرسي في مسلسل “نسل الأغراب”، وقبلهما عبدالله غيث في مسلسل “البرنس” في الموسم الرمضاني السابق.
ويقول نقاد إن استحضار الأموات فتح المجال للمقارنات كثيرا بين أداء الممثلين وأسلافهم على مستوى إيصال الانفعالات، خاصة ما تعلق بمحمود مرسي ونور الشريف اللذين برعا في تصوير دور الصعيدي بهدوء ورزانة في أكثر من عمل دون صراخ أو تعبيرات وجه شديدة الافتعال للفنان أمير كرارة وأحمد السقا في مسلسل “نسل الأغراب” الذي تدور أحداثه عن جنوب مصر (الصعيد) أيضا.
وينصبّ اهتمام الفنانين حاليا على المظهر الخارجي المعتاد (اللوك) أكثر من طبيعة الدور، ويتنقلون بالهيئة ذاتها من مسلسل إلى آخر من غير مراعاة لطبيعة القصة، أو محاولة إظهار الاختلافات التي تمكّن الجمهور من اكتشاف الفوارق في المظهر، فلحية ياسر جلال لم تفارقه منذ سبع سنوات، بصرف النظر عن طبيعة الدور، سواء أكان رجل أعمال أم حارسا شخصيا لرئيس دولة أو حتى فتوّة في مصر القديمة يدافع عن الفقراء.
ويتحجّج بعض الفنانين بتكرار القصص كذريعة للهروب من مسؤولية عدم استطاعتهم تغيير قدراتهم، ويأتي الردّ عليها عبر قطاع من الفنانين الكبار الذين يتلوّنون في تقديم الدور الواحد، ولكن بشكل مختلف في كل مرة، مثل يحيى الفخراني الذي يقدّم في مسلسل “زكي نجيب زركش” وقبله في “الخواجة عبدالقادر” دور مدمن الخمور المريض بتليف كبدي. لكنّ أداءه يظهر تباينا كبيرا بين الشخصيتين.
وتسبّبت الاختلافات المتباينة في القدرات التمثيلية بين الجيل الحالي والجيل الذي سبقه من الممثلين في توقف اتجاه فني ساد قبل عقد بتحويل الأعمال السينمائية القديمة إلى مسلسلات بعدما لفظها الجمهور، وانتقدوا أداء ممثلين أعادوا تقديم قصص “الزوجة الثانية” و”رد قلبي” و”العار” و”الطوفان” بطريقة أضعف بكثير من النسخة الأصلية.
تهميش الأدوار
لا يستطيع الإخراج مساعدة الفنانين كثيرا مع تهميش دوره باستمرار بارتجال الممثلين وإضافة مشاهد بعينها تتماشى مع سياقاتهم النفسية والعقلية، مثل مشهد محمد رمضان الذي يقف فيه وسط ساحة التحطيب (نزال العصيّ) مردّدا عبارة “هأفضل في الساحة واقف وحدي” (هل سأظل واقفا بمفردي في ساحة النزال) التي تتماشى كثيرا مع ترديده المستمر، لعبارة “نمبر وان” التي يصف بها نفسه.
ويصعب على المخرجين المصريين إجبار الفنانين على أنظمة غذائية خاصة للوصول بأوزانهم إلى الدور المطلوب مثلما يحدث في هوليوود التي تضطر فيها بعض الأسماء الكبيرة مثل توم هانكس وروبرت دينيرو لخسارة أوزان أو كسبها لمنح الأداء المنطقية اللازمة.
ويقول الناقد الفني أندرو محسن إن بعض الممثلين يحافظون على طبيعة أداء أدوار نجحت مع الجمهور ويرفضون المخاطرة بالتجديد في الموضوع أو الأداء، كما لو كان الأمر تميمة نجاح يحافظون عليها، عكس الأجيال القديمة التي تجنح إلى التغيير المستمرّ وترفض بعض الأدوار لتشابهها مع ما قدّم سابقا.
صحيح أن بعض الأدوار الدرامية تأتي مسطّحة على الورق بما لا يعطي الممثل قدرة على إظهار مواهبه، لكن المحك في الشخصيات شديدة الظلامية والالتواء والتعقيد التي يفترض أن تكون عجينة سلسة وجاهزة أمام الممثل لتشكيلها وفقا لشخصيته وأسلوبه، حتى تأتي بالصورة المرسومة لها أمام الجمهور.
وأوضح محسن لـ”العرب” أن بعض الممثلين يعون قدراتهم جيدا ويعرفون أنها لا تسمح بأكثر من المعتاد فيحافظون عليه، لكن المثير للاستغراب أن بعضهم يملك الكثير من القدرات التي يضيّعها بسبب التكرار، مثل ياسر جلال الذي لم يحقّق مسلسله “ظل راجل” في الموسم الرمضاني الأخير صدى كبيرا لسيره في ركب التجارب السابقة عن بطل طيب محبوب من أهله يتعرّض للظلم.
وتنبع الشخصية الدرامية من الحياة وتتفاعل مع الأحداث باستمرار فتتطوّر بمنطق داخلي تستمده من روح الشخص وعدم ثبات الإنسان على حال واحدة، فالعواطف والميول تتبدّل وتتصارع داخله باستمرار، ونجاح الممثل هو الإمساك بتلك العناصر ودمجها مع بعضها البعض في كيان واحد مفعم بالتعبير.