قبل أن تضع رأسك على الوسادة.. كيف تواجه سيل الأفكار المزعجة

نبدأ صباحنا سريعاً، نسارع إلى أعمالنا بجدية وحزم، نواصل نهاراتنا بالجري المستمر خلف مسؤوليات لا تنتهي؛ حياة معقدة ومجهدة على الرغم من مظاهرها الجاذبة والمتطورة ورفاهية مكوناتها. وفي نهاية اليوم، حين نضع رأسنا على الوسادة استعداداً للحظة الخلاص، تنبت فجأة علامات أسئلة كبيرة ومزعجة، لوم وعتب لا ينتهي، حيث تمارس علينا أفكارنا دور الجلاد الذي لا يرحم وهو يقول لنا بكل أسف: ما هي إنجازاتك لهذا اليوم؟ كيف أضعت كل هذه الساعات الثمينة ولم تخرج بشيء مهم؟
متابعة الواجبات في البيت والعمل، التسوق، السؤال عن الأهل، عيادة صديق مريض، الرد على الرسائل، ملاحقة قاطرة المواعيد مع الطبيب أو مع معلمة المدرسة، محاولة اللحاق بالأوراق النقدية لمنعها من أن تطير في حادثة تسوق عشوائية وتوفير حد مناسب من متطلبات المعيشة. هل هذا كل شيء؟
لا شيء طبعاً، السؤال الأهم؛ كيف أصبحت تطالع بدهشة هذا المحيط المتلاطم من إنجازات الآخرين، إبداعاتهم، اختراعاتهم، تفوقهم ولم تتسن لك حتى محاولة مد قدميك في الماء؟ كيف تعاملت مع جسدك المرهق؟ ومتى كانت آخر مرة استشرت فيها طبيباً؟ كم هو عدد الدقائق التي اقتنصتها للقيام بجولة مشي بسيطة؟ ما هو طعم نسمات الهواء النقية التي استنشقتها؟
كم هو عدد الألوان التي تضمنها طبق السلطة في وجبة العشاء السريعة المشبعة بالدهون؟ كم صفحة قرأت من كتاب اقتنيته بحماس قبل شهور ولم يتسن لك حتى اللحظة التعرف إلى عنوانه؟ متى كانت المرة الأخيرة التي شاهدت فيها فيلما حطم الأرقام القياسية في شباك التذاكر، ولم يستطع تحطيم مقاومة أجفانك وهي تطبق على الدقائق الأولى من المشاهدة لتذهب في غيبوبة عميقة لا تفيق منها، حتى يحل صباح يوم آخر.. سريع، شاق، يصعب اللحاق بقاطرته؟
لا شيء!
تعمل أستاذة علم النفس التنظيمي الأميركية د. مارسيا رينولدز في تصميم برامج التغيير والثقافات التنظيمية وتقدم على الدوام محاضراتها مع أفراد أو مجموعات تعليمية في التحديات التي تواجه المتفوقين إضافة إلى بحوثها في مجال الذكاء العاطفي. ترى مارسيا أننا قد نشعر بالتعب والإرهاق على الرغم من تمتعنا بساعات نوم كافية، ويبدو أن ما يستنزف طاقاتنا لا علاقة له بحاجاتنا الجسدية فقد أصبحت حياتنا مزدحمة، صاخبة، مليئة بالتحديات التي لا نلاحظها أحياناً ولا نلاحظ مدى تأثيرها في اختلال توازننا النفسي.
في نهاية اليوم، نحن متعبون وغريبو الأطوار، وبعد كل هذا، لم نستطع أن نقدم شيئاً لأنفسنا مهما كان بسيطاً، بعضنا يطوي أيامه بطولها وعرضها فلا يجد ما يدفعه إلى الابتسام. وهي ترى أن مصادر هذا الإرهاق تكمن في داخلنا وليس في البيئة الخارجية التي تحيط بنا؛ البيئة الاجتماعية، العمل، الشارع والمنزل. لهذا قد يشعر أحدنا بغياب التوازن في محاولته لإتمام مهامه الخاصة ولكن احتفاظه بتوازنه النفسي الداخلي يمكن أن يذلل أي مصاعب تقف في طريقه.
ويتحدث متخصصون عن أهمية الراحة العقلية والسلام النفسي، فإذا كان العقل مثقلاً بالمتاعب والذكريات المزعجة التي لا يبذل الإنسان جهداً في تجنب استذكارها يميل دائماً إلى ارتكاب الأخطاء، وكلما سمحنا لأنفسنا باجترار أحداث الماضي وملابساتها وانتقاد الذات والقلق بشأن أحوال المستقبل وما ستؤول إليه حياتنا نحمّل عقولنا ما يفوق طاقتها، الأمر الذي يستنزف قواها ويجعل من تنظيم جدولنا اليومي أمرا يثقل كاهلنا على الرغم من بساطة ذلك.
التعبير عن وجهة نظرنا حتى وإن كانت صادمة للبعض أفضل من اجترار المشاعر السلبية الناجمة عن شعورنا بالظلم
يحاول علماء النفس إيجاد بعض المخارج الممكنة للتنصل من هذه الحالة بتبني نشاطات يومية بسيطة ومريحة وممكنة في الوقت ذاته؛ التجوال في مساحات خضراء، التأمل، مشاهدة بعض البرامج الفكاهية على شاشة التلفزيون قبل النوم مباشرة وكل ما من شأنه أن يفرغ عقولنا ونفوسنا المثقلة بأحمال لا داعي لها.
وتؤكد مارسيا رينولدز أن التحدث إلى الأصدقاء أو الأشخاص الذين نثق بهم، عن مشاعرنا وأعبائنا العاطفية، يمكنه أن يحدث فرقاً كبيراً لتخفيف بعض الضغوط التي نعانيها في حياتنا اليومية بسبب شعورنا بالإحباط واللاجدوى، على ألا يكون الغرض من هذه المحادثات هو تلقي النصيحة أو اللوم من الطرف الآخر، فهذه الردود يمكنها أن تعقد الموقف أكثر وتزيد الحالة النفسية سوءاً.
هناك خيارات أخرى يمكنها أن تخفف العبء النفسي كثيراً، منها ضرورة أن نرفض مواصلة الصمت وتحمل الضغوط دون التعبير عن مشاعرنا الحقيقية، حتى إذا كان الأمر متعلقاً بمواجهة صديق أو فرد من الأسرة كان سبباً مباشراً في تكبدنا هذه المشاعر، فالتعبير عن وجهة نظرنا حتى وإن كانت صادمة للبعض أفضل من اجترار المشاعر السلبية الناجمة من شعورنا بالإحباط والظلم، بصورة قد لا يكون الطرف الآخر مدركا لها تماماً.
عوضاً عن ذلك ينصحنا متخصصون بأهمية مصاحبة أصدقاء ورفاق تتميز شخصياتهم بالبساطة والبهجة، إذ يجعلنا مجرد الاستماع لهم نضحك معهم في مزاج رائق، فوجود مثل هؤلاء في حياتنا يلونها ويقلص مساحاتها القاتمة. مع ذلك، يخفق الكثيرون في تحقيق الفرص التي تجمعهم بالأشخاص المناسبين الذين يشاركونهم مستوى التفكير، أو على الأقل يمتلكون القدرة على إضفاء أجواء لقاء مريحة مع جمع من الناس، لكن لا بأس، هناك دائماً فرصة للقاء أناس يشتركون معنا في هواية أو يسعون إلى هدف مشترك سواء أكان عاماً أم على المستوى الشخصي؛ الترويج لقضية عامة، التطوع لمساعدة الآخرين أو حتى المشاركة في منافسة في فنون الطبخ. ليس المهم أن نحقق أهدافاً عظيمة، الأهم أن نحظى بيوم عظيم ونومة هانئة.