في عفوية الصغار حكم كثيرة

العبقرية ليست حكرا على أشخاص دون غيرهم ولكن العبقرية تصنع في المنازل والمدارس والكليات والفضاءات الاجتماعية على اختلافها.
الثلاثاء 2019/02/05
التاريخ خير معلم من أجل البناء المستقبلي

ما ترسخ في المخيال الشعبي وانعكس على الممارسة الاجتماعية اليومية أن الكبار هم من يمتلكون المعرفة في جميع مجالاتها وأنهم المعلّمون وأبناؤهم ليسوا سوى متعلمين متدربين ينهلون من معارف الكبار على اعتبار أنها حقائق لا تناقش ولا يمكن دحضها. وهذا من شأنه طبعا أن يحدّ من قدرات الإبداع والخلق والتجاوز في سبيل التطوير والتقدم نحو البناء الفاعل والمثمر.

على حين غرة ودون سابق إنذار واجهتني ابنتي التي لم تتجاوز الثانية عشرة من سنين عمرها الغضّ بسؤال دقيق إلى درجة أن الإجابة عنه تمثل متاهة في حدّ ذاتها. سألت بتلقائيتها المعهودة “ما الذي ينقصنا لنكون عباقرة؟”.

السؤال على قدر اختصار كلماته عمّق جرح التعلّم والمثاقفة في إطار تفاعل حضاري مثمر وبناء. نعيش في أسرنا كالأغراب لا يجمعنا سوى التحلق على موائد الطعام، في مناسبات قليلة يجتمع الشمل بأكمله، أو وحدة السقف الذي يظللنا من القيظ والبرد. تفككت العلاقات التي تجمعنا لصالح مفاهيم الذاتية والانتهازية وصرنا نلهث فقط وراء ما يسدّ جوع بطوننا ونسينا في هذا الخضمّ الهادر ما يجب أن نوفره لنشبع عقولنا ونساير العالم من حولنا الذي تجاوزتنا أحداثه وأفكاره ومنتجاته المعرفية والمادية.

كانت غفران الصغيرة أعقل من أبيها وأشد تأملا ونباهة منه، استطاعت أن تربكه بسؤالها وتجعله يعيد استعراض سيرورة حياته وعلاقته بأفراد أسرته وبمحيطه الاجتماعي والشغلي أيضا. وطرح بدوره سؤالا لم يفكر فيه من قبل، أو بالأحرى تناساه عمدا “لماذا سيطرت على حياتنا مفاعيل المادة وكبلت جهودنا من أجل التميز ومواكبة متطلبات العصر؟”.

أجبتها دون أن أتكلم، ولاحظت دهشتي وتيهي، ما فعلته ليس سوى استعراض لما علمته إياها لتتفوق وتتميز وتحلم بأن تكون من زمرة العباقرة، في الحقيقة لم أفعل شيئا لأنني كنت أراقب أعدادها وأقيم مردودها من خلال بطاقة الأعداد، وكنت أضع سقفا وأجتهد لأجعلها لا تنزل تحته، كما كنت صبيانيا أتباهى أمام أصدقائي بما حققته من أعداد ممتازة في مختلف المواد، وأفتخر في خيلاء بإنجازها.

من غبائي أنني لم أفكر يوما في متابعة غفران في ما تفعل ولم أحاول ولو مرة أن أتحقق من مصداقية الأعداد المدرسية العالية، لم أهتم يوما بما وراء هذه الأعداد من تكوين، لم أقيم البرامج وطريقة تدريسها، لم أقيم أداء معلميها حيث أن الجيد منهم هو من تحصلت عنده على أعلى عدد في القسم.

أما آن لنا أن نغير فلسفتنا التعليمية ونهتم بالتكوين وتنمية القدرات الذاتية ونغفل هذا التقييم الجزائي الذي أعتبره مجرد تصنيف لا جدوى وطنية فعلية منه

اعتذرت مرارا وتكرارا في سرّي ولم أستطع أن أجاهرها بذلك خجلا ليس منها ولكن من نفسي، وتذكرت أنني كنت ألوم إخوتها الكبار على عدم بذل الجهد للتفوق والنجاح بامتياز ولكنني تعلمت من سؤالها الحارق أنني لم أستطع كيف أجعلهم يتميزون، كيف ينمون قدراتهم الذاتية ويؤمنون بها ويدافعون عنها، لم أعلمهم كيف يحسون بالزمن الآني والزمن الثقافي والحضاري في امتداده. بشكل ما كنت جزءا من المشكلة وليس الحل.

بعد كل ما اعتمل في نفسي من إرهاصات ناتجة عن سؤالها البريء، قمت بضمها إلى صدري في اعتذار لم أفصح عنه، وربّتّ على خصلات شعرها المتناثر على صفحة وجهها وقلت “عزيزتي، السائد أن العبقرية موهبة لا يحتكم عليها كل الناس، ولكن إذا كنت تؤمنين بأنك تمتلكين المؤهلات التي تجعلك في قمة عطائك الذهني والجسدي فأنت في طريق العباقرة”.

تورد وجهها الصغير بملامح براءته وفهمت حينها أن الكبار هم وحدهم المسؤولون عن الفشل والنجاح، فكل أب وأمّ لم يسعيا إلى تنمية قدرات أبنائهما وحضهم على التميز والتفوق فهما لم يقوما بواجبهما حتى وإن اجتهدا في توفير كل ما يلزم منظوريهما من مصاريف مادية. سؤال ابنتي جعلني أيضا أفكر في جدوى برامج مدرسية بكل تفرعاتها تقوم أساسا على الفعل الجزائي، لأن المنطق يفترض أن التلاميذ الذين يتحصلون على أعلى معدلات في دراستهم لا يعني أنهم الأقدر على الفعل لاحقا في إطار ما تتطلبه المجموعة الوطنية من فرص خلق وإبداع للنهوض بجميع المستويات الحياتية ومحاولة اللحاق بركب الحضارة الكونية الذي تفصلنا عنه سنوات بل عقود وحتى قرون.

أما آن لنا أن نغير فلسفتنا التعليمية ونهتم بالتكوين وتنمية القدرات الذاتية ونغفل هذا التقييم الجزائي الذي أعتبره مجرد تصنيف لا جدوى وطنية فعلية منه. أما آن لنا أن نستخلص الدروس من الماضي والسيرورة التاريخية لحضارتنا ونضع النقاط على الحروف في ما يخص الأسباب التي أنتجت عصورنا الذهبية وأسباب انحطاطنا. أكيد أن التاريخ خير معلم من أجل البناء المستقبلي.

العبقرية ليست حكرا على أشخاص دون غيرهم ولكن العبقرية تصنع في المنازل والمدارس والكليات والفضاءات الاجتماعية على اختلافها.. لا تجعلوا أبناءكم يجلدونكم كما جلدتني غفران الصغيرة بسؤالها الذي اختزل كل حياتي على امتدادها، تعلمت الدرس وإن كان متأخرا.

21