في العراق.. مدونات إنسانية يومية على صفحة الدمار

قبل فترة قصيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لمدير مدرسة في بغداد وهو يقوم بصبغ جدران أحد صفوف مدرسته، بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية. هذه المدرسة التي خلت من أبسط المقوّمات لاستقبال تلاميذ، صار لزاما عليهم، أن يدفعوا نصيبهم هم أيضا من “فاتورة” الخراب. وليس ببعيد يقوم فنان تشكيلي في مدينة بابل بإطلاق حملة “لوّن معي مدينتي”، فيرسم هو ومجموعة من أصدقائه أزهارا وخضرة على جدران المدارس والمرافق العامة وبعض الجسور في منطقة تعد “ساخنة” أمنيا.
يضطر هؤلاء، وغيرهم الكثير، للقيام بمبادرات فردية لسد الثغرات في الخدمات المحلية التي غابت عن ملامح المدن وتوارت خلف صور الفوضى والإهمال؛ وهم يؤمنون بأهمية مواجهة كل هذا العنف بوسائل جديدة، كما يجدون في عملهم استمرارا لمظاهر الحياة في مواجهة موت يومي محتمل.
وفي أحد أيام شهر يوليو الماضي وفي درجات حرارة صيف تجاوزت الـ51، بدأت فكرة مشروع قصي كامل (42 عاما)، الحداد العراقي وطالب القانون الطموح، حين طلب منه طفل يتيم يسكن بجوار منزله مساعدته على اجتياز امتحان مدرسي، فقبل بمساعدته وفتح له باب قلبه ومنزله الصغير المتواضع ليكون فصلا دراسيا سرعان ما اكتظ بتلاميذ صغار تراوحت أعمارهم بين 10 و13 عاما،
من أيتام وأبناء شهداء فقدوا ذويهم ومعيليهم مع بعض الأطفال النازحين وغيرهم، اجتذبتهم الفكرة وطمعوا في الاستزادة من الخير الذي هبط عليهم (على غير العادة) بالمجان.
يعمل قصي حرفيا ماهرا في ورشة حدادة صباحا وطالبا في كلية القانون ظهرا وفي المساء يستقبل في شقته الإيجار التي لا تتجاوز مساحتها 70 مترا مربعا تلاميذ صفه الذين لم يتمكنوا من اجتياز اختبارات الدور الأول في المدرسة. وخلال ساعتين يخصصها لهم يوميا، يحاول قصي أن يزوّد تلاميذه بمعلومات مكثفة تعينهم على اجتياز امتحان الدور الثاني.
وبسبب ضيق المكان وتجاوز عدد تلاميذه أحيانا الرقم 18، اضطر قصي إلى أن يقيم فصله الدراسي في معظم الأحيان على سطح البناية التي يسكنها متحايلا وتلاميذه على درجات الحرارة المرتفعة التي يتميز بها الصيف العراقي الساخن.
وبلغت نسبة نجاح التلاميذ في الاختبار الثاني قرابة الـ80 بالمئة، الأمر الذي شجع المعلّم الطموح على الدفع لاستمرار فصله الدراسي على مدى شهور السنة ابتداء من العام الحالي.
وتحولت علاقته مع تلاميذه إلى صداقة تجاوزت في روابطها العلاقة التقليدية بين المعلم وتلاميذه، فصار الصديق الذي يمكنهم أن يتكلوا عليه ويثقوا فيه ويلقوا في حضوره بعض النكات أيضا.
آلاء ومصطفى العروسان اللذان تعارفا على موقع فيسبوك، فقد تبرعا بكامل تكاليف زواجهما لصالح مخيم للنازحين في بغداد
وكانت مبادرة قصي كامل مثارا لدهشة البعض الذين تساءلوا بلامبالاة عن السّر الذي يدفع برب أسرة صغيرة للتضحية بوقته وجهده دون مقابل، كما لم تهتم أي من المنظمات الإنسانية أو الحكومية بدعم تجربته أو على الأقل محاولة تكرارها بجهود مشتركة لتشمل أعدادا أكبر من الأطفال.
لكن هذه المعوّقات النفسية لم تثن قصي عن مشروعه الإنساني وطموحه. وهو يقول “هذه مجرد محاولة بسيطة مني لتغيير مستقبل هؤلاء الصغار إلى الأفضل وإزالة بعض المعوقات من طريقهم والأهم من ذلك أن تتحول هذه التجربة إلى محاولة لغرس قيم العطاء والإيثار في نفوس الصغار، كما أتمنى أن تسهم في التعتيم على مشاهد الدمار والقتل والتهجير التي يمتلئ بها المشهد العراقي”.
أما آلاء ومصطفى العروسان اللذان تعارفا على موقع فيسبوك عن طريق أصدقاء مشتركين، فقد تبرعا بكامل تكاليف زواجهما لصالح مخيم للنازحين في بغداد.
وربطت بين آلاء محمد ياسين (24) سنة ومصطفى الصوفي (26) سنة، قصة حب على مدى خمس سنوات حين كان مصطفى ما يزال طالبا في كلية الطب البيطري بمحافظة صلاح الدين وكانت آلاء طالبة في كلية العلوم في الجامعة المستنصرية ببغداد، وبالرغم من بعد المسافة بين صلاح الدين والعاصمة بغداد، إلا أن شبكة التواصل الاجتماعي ساهمت في تقليصها وقربت بين قلبين ظلا عشيقين على الدوام.
وحين قررا الارتباط، اختارا أن يكون سكان مخيم للنازحين ضيوفهما في حفلة زفاف غير تقليدية تم خلالها الحرص على تقديم ضيافة تليق بالعروسين الطيبين، ضيافة مكوّنة من مؤن ومساعدات ربما تقي سكان المخيم برد الشتاء المقبل بعد أن تركوا منسيين على حاشية الإهمال.
وتقول آلاء “هذه الفكرة جاءت لاعتقادنا الشديد بأن تكاليف حفلات الزفاف مجرد تقاليد غير عقلانية يتم فيها إهدار أموال في وجهات كمالية لا قيمة لها.
ولهذا، واجهتنا الكثير من العوائق والاعتراضات من قبل المحيطين بنا لكننا لم نلق لها بالا، ذهبنا إلى المخيم الذي يضم قرابة ألف نازح بواقع 225 أسرة وحملنا لهم ما استطعنا من مساعدات، أغطية وعلب حليب، وفوجئنا برد فعل الناس هناك فقد كانوا فرحين بوجودنا أكثر من فرحتهم بالمساعدات التي لم تصلهم منذ مدة ليست بالقصيرة، واستقبلتنا سيدة رقيقة بنثر بعض الحلوى وهي التي لا تمتلك قوت أطفالها. فرحتنا لا توصف”.