في الحي الناشئ

عند أطراف القاهرة، وإلى حي جديد، لا يزال تحت البناء؛ وصلت منذ أسبوعين، مضطراً إلى التواجد لاستكمال تجهيز شقتي السكنية هناك. وفي الحقيقة، أحسست هنا بمتعة غير مسبوقة في معايشة العمال والحرفيين وأصحاب المحال التي تبيع كل شيء، بدءاً من اللوازم الأساسية للإنشاءات، إلى أواخر المتطلبات الجمالية لدواخل الوحدات السكنية.
كل شيء هنا يذهب بنا إلى التأمل. ولعل أول ما يراه المرء بأم عينه فيتأمله، هو كيف تنشأ الأرزاق، وتشق الحياة طريقها إلى الأمام!
عندما ينتشر العمال في نحو خمسمئة مبنى اكتمل بناؤها، وخمسمئة أخرى في طور التأسيس؛ يكون تجار السلع ومواد البناء والتشطيب قد حضروا سريعاً. فهم الذين استقرأوا سلفاً سيكولوجية العامل وصاحب الوحدة السكينة الجديدة. فالأول يريد أن يأكل ويشرب الشاي وأن يستريح قليلاً، وأن يأنس إلى محل بقالة قريب، يبتاع منه أشياءً أخرى، وربما يحتاج إلى حلاّقين وباعة فاكهة وخضار. لذا، سرعان ما ظهرت وتكاثرت مطاعم صغيرة، ومقاهٍ ومحال بقالة وسلع غذائية وغيرها، ومعظم هذه تنتحل أسماءً مُفخمة، أو تحاكي أسماءً راسخة في قلب المدينة، رغم كونها تنشأ في أرضيات أبنية لا تزال تحت البناء أو الطلاء. أما صاحب الوحدة السكنية والحرفي فيريدان محالّ قريبة لبيع ما يلزم، تحاشياً لأكلاف نقل الاحتياجات الكثيرة. وعليه تنتشر في الحي، محال اتخذت لأنفسها أسماءً جديدة، مع الإشارة إلى الاختصاص في اللافتة: حدايد، نجارة، زجاج، كهرباء، مواد بناء أساسية، أدوات صحية، أدوات منزلية..
وكوني في طور تجهيز الشقة المنتهية تشطيباً؛ فقد أدهشني أن مدحت صاحب محل اللوازم المنزلية، قد افتتح فرعاً ثانياً أوسع مساحةً، في داخل الحي نفسه. ويبدو من هيئة الرجل أنه تاجر مخضرم، إذ يتأنق ويمتلك سيارة رباعية الدفع. فبعض الأدوات التي ابتعتها منه، تسلمتها من المحل الثاني، والرجل يقول إن “القشة معدن”!
من خلال الصحافي الذي يسكنه، أدار العبد لله حوارت دائمة وشيقة، تخللتها الكثير من القفشات، مع كثيرين من أفراد هذا المجتمع، حتى أصبح “عمي الحج أبوشعبان” معروفاً في الحي، دون أن يسأله أحد عن عمله أو بقية اسمه. أما الجنسية، فكانت في موضع التخمين والاستفسار، ولعل أطرف ما سمعته عن أمرها، ما قاله “عبده” وهو ربع ترزي مختص في إصلاح الملابس “حضرتك شيخ عرب”. لكن بائع البهارات، كان فلسطينياً مولوداً هو وأبوه في مصر فلم يخطئ. كذلك أصحابه لم يُخطئوا، لأنهم من سيناء ومن عوائل بدوية ممتدة على جانبي الحدود.
لعل الأكثر متعة في حوارات الحي الناشئ وصداقاته، أنني تعلمت الكثير من أسماء الأشياء والمصطلحات، وتأملت دلالاتها، ولهذه حصراً سياق آخر!