فيلم "ماريللا".. عودة السينما السياسية إلى البرازيل

كان فيلم “ماريللا” إحدى مفاجآت الدورة الـ69 من مهرجان برلين السينمائي، ليس فقط لأنه أول أفلام الممثل البرازيلي فاغنر مورا كمخرج، بعد أن حقق شهرة عالمية في دور بارون المخدرات الشهير الكولومبي بابلو إسكوبار في المسلسل التلفزيوني “ناركوس”، بل ولأنه يعيد السينما البرازيلية إلى الفيلم السياسي المباشر في سياق أسلوب سينمائي جذاب يحاكي الأفلام الأوروبية التي ظهرت في الستينات والسبعينات وأشهرها فيلم “زد” (Z) الفرنسي.
قبل أن يبدأ عرضه العام في البرازيل أثار فيلم “ماريللا” (Marighella) الكثير من الجدل، وأشعل معركة سياسية حامية الوطيس بين اليمين واليسار في خضم الوضع السياسي الملتهب بالبلاد منذ نجاح الرئيس جير بولسونارو الذي يمثل أقصى اليمين في الوصول إلى السلطة، وعلى الرغم من أن تصوير الفيلم كان قد بدأ قبل الانتخابات التي أتت بالرئيس بولسونارو.
وقد أبدى هذا الأخير علانية وأكثر من مرة، إعجابه الكبير بنظام الدكتاتورية العسكرية الذي حكم البرازيل لأكثر من 20 سنة، في الفترة من 1964 إلى 1985، معبرا عن أمنيته في أن تعود البرازيل إلى فترة مماثلة، وامتدح الحاكم العسكري الجنرال كارلوس أوسترا الذي مورس في عهده التعذيب المنهجي على الآلاف من المعتقلين السياسيين، ووصفه بأنه “بطل برازيلي”.
مرة أخرى يأتي فيلم من أميركا اللاتينية يصوّر نضال الشباب اليساري ضد الدكتاتورية والقمع، مبرزا اندفاعهم في رومانسيتهم الثورية ورغبتهم في رؤية بلادهم تعود مجددا إلى الديمقراطية، والتضحيات التي كان يتعين عليهم تقديمها أمام البطش والقتل والتعذيب والتنكيل وفرق الاغتيالات.
وكان فيلم “ليلة الاثني عشر عاما” (نشرنا عنه في هذه الصفحة من قبل) يتناول بأسلوب خلاب، موضوعا مماثلا يستند مثل فيلمنا هذا، على أحداث وشخصيات حقيقية، في أوروغواي وفي الستينات أيضا، خلال حكم الدكتاتورية العسكرية الذي استمر لمدة 12 عاما، من 1972 إلى 1984.
أما “ماريللا” فهو يصوّر الفترة الأخيرة من حياة المناضل الماركسي الثوري والشاعر والنائب البرلماني كارلوس ماريللا، الذي قاد النضال ضد الدكتاتورية في البرازيل ودفع حياته ثمنا لمثالياته حينما حاصرته الشرطة وقتلته عام 1969 بعد أن نجحت في اختراق التنظيم الذي كان يقوده من خلال التعذيب والقهر، ودفعت البعض إلى الوشاية به ثم بالمكان الذي يوجد فيه ابنه الصغير.
كان كارلوس ماريللا في الأصل أسمر اللون، فقد كان ينتمي لأب من البيض وأم من أصول أفريقية، لكن المخرج فاغنر مورا اختار أن يجعله أسود، وأسند دوره إلى المغني الزنجي البرازيلي سيو خورخي الذي يشبه كثيرا في ملامحه لاعب كرة القدم البرازيلي الأسطوري بيليه.
والسبب يعود إلى قناعة المخرج، بأن الدكتاتورية كانت تستهدف اليسار والحزب الشيوعي البرازيلي والمنظمات التي تفرعت عنه ومنها المنظمة التي كونها وقادها ماريللا، كما كانت أيضا مدفوعة بحكم نظرتها العنصرية إلى استهداف البرازيليين السود بوجه خاص، وقد سعت بشتى الطرق لإذلالهم بل وقتلهم على الهوية في الكثير من الأحيان، وكانت تفرض عليهم القبول بالعيش كما تريدهم، أي كالحيوانات سجناء داخل الأحياء الهامشية المكتظة.
وفي تصريحاته خلال مهرجان برلين السينمائي، وصف المخرج النظام الحالي في البرازيل بأنه أيضا نظام عنصري، وهذه النظرة تنعكس بوضوح على الفيلم وأحداثه.
حبكة بوليسية
بناء هذا العمل السينمائي هو بناء الفيلم البوليسي المثير الذي يستدرج المتفرج من خلال الحبكة المثيرة، للدخول إلى عالم الصراع السياسي بين طرفين، فهو يدور بين الخير والشر، الأسود والأبيض، بين المناضلين الرومانسيين أصحاب القضية وقوى القمع، بالتعاون مع المخابرات الأميركية التي تدعم النظام وتزوده بالأسلحة للقضاء على الشيوعيين.
في بناء كهذا لا مجال لظهور شخصيات “رمادية” تخرج عن نطاق هذين المعسكرين: معسكر السلطة بعساكرها وقواتها وأسلحتها وكلابها البوليسية المدربة، ومعسكر الثوار المعارضين المناضلين، الذين ينطلقون من رغبتهم في رؤية البرازيل بلدا ديمقراطيا يتمتع بالحرية.
يبدو المشهد الأول من الفيلم مصمما على غرار أفلام الإثارة البوليسية، فمن خلال كاميرا متحركة حرة مهتزة، في لقطة/ مشهد تستغرق دقائق عدة على الشاشة، حيث تحصر الكاميرا جميع الشخصيات التي نراها في هذا المشهد الذي يدور في الليل، في لقطات قريبة (كلوز أب) وتحافظ على وضوح المنظور، وتنتقل بين مختلف الشخصيات داخل ممرات القطار، ببراعة تامة.
إنها تتابع عملية سطو تقوم بها مجموعة من الثوار التابعين لماريللا على قطار حكومي يحرسه الجنود، بهدف الاستيلاء على حمولته من الأسلحة والذخائر، تدور بعض الاشتباكات الدموية، وينتقل أحد الثوار بين عربات القطار وهو يهدئ من روع المسافرين الفزعين، مؤكدا لهم إنهم ليسوا لصوصا بل ثوار يريدون فقط الاستيلاء على الأسلحة.
هذه الحادثة تثير ثائرة الشرطة التي تعتقل البعض وتخضعهم للتعذيب سعيا للوصول إلى المجموعة التي قامت بالغارة على القطار، بعد ذلك نعود إلى الوراء، فننتقل من عام 1968 حيث كانت الخلية الثورية التي شكلها ماريللا قد بدأت تقوم بشن هجمات على أهداف حكومية مدنية بالقنابل وتستهدف قطارات محملة بالأسلحة وسرقة البنوك، وغير ذلك، إلى عام 1964 أي إلى بداية إعلان الدكتاتورية العسكرية في البرازيل، ونظل ننتقل إلى الأمام تدريجيا إلى أن يصبح تركيز الفيلم منصبا على العام الأخير في حياة ماريللا.
وبعد الغارة على القطار سيقوم ماريللا بنقل زوجته وابنه بعيدا عن ساو باولو، حيث يقيم الابن مع أمه في بلدة باهيا الواقعة في مقاطعة سلفادور شمال شرقي البلاد، لكن الشرطة ستتمكن سريعا من تحديد مكان الابن وتفرض عليه رقابة مشددة دائمة.
بين التاريخ والخيال
يمزج سيناريو الفيلم بين الأحداث التاريخية الحقيقية المقتبسة من حياة ماريللا، وبين مشاهد وأحداث وشخصيات خيالية أو متخيلة، بغرض تكثيف الحبكة المثيرة.
وهذا البناء ينجح حينا في خلق نوع من التعاطف بين الجمهور مع الشخصيات الرئيسية، كما يفشل حينا آخر في الإخلاص للسرد بسبب الخروج عن الخط الرئيسي، بل إن بعض الأحداث قد لا تكون واضحة تماما لمن لم يطلع على تفاصيل المسيرة النضالية لكارلوس ماريللا.
نحن مثلا نشاهد القبض على ماريللا في مرحلة ما من نضاله في الستينات، ثم إطلاق سراحه، دون أن نعرف ما الذي حدث له خلال الفترة التي قضاها في السجن، وكيف ساهمت الضغوط القانونية من ناحية أنصاره بالخارج في إقناع السلطة بالإفراج عنه رغم معرفتهم بخطورته.
ويعبُر الفيلم سريعا إلى مسألة طرد ماريللا من الحزب الشيوعي البرازيلي، وإن كان يبرز التناقضات التي وقعت بينه وبين قيادات الحزب بسبب توجهه الراديكالي، ثم انفصاله وتكوينه مجموعة ثورية تنتهج العنف الثوري وتعلن النضال المسلح وتستهدف تحديدا قوات الجيش والشرطة.
وإذا كان الفيلم لا يلقي الضوء على الفترة التي تولى خلالها ماريللا دورا قياديا في الحزب قبل أن يصل معه إلى مفترق الطرق، إلّا أن من الجوانب المتوازنة في الفيلم أنه لا يدين الحزب مقابل الإعلاء من شأن ماريللا، بل يصوّر كيف يضحي أحد قادته وهو رئيس تحرير إحدى الصحف اليسارية المسموح لها بالصدور رسميا، بصحيفته بل وبحياته عندما يقرر تبني دعوة ماريللا إلى التحريض على العصيان المدني العام، ومناشدة الناس تأييد النضال وتوضيح ما يجري للمناضلين وأنهم ليسوا عصابات إجرامية كما يصوّرهم إعلام النظام، مما يؤدي إلى اعتقال الرجل وقتله.
يهمل الفيلم أيضا العلاقة بين ماريللا وشخصيات دولية مرموقة مثل ماوتسي تونغ وتشي غيفارا، وخاصة أن ماريللا كان قد زار كلا من الصين وكوبا، كما تأثر بفلسفة غيفارا الثورية ما دفعه إلى انتهاج طريق “العنف الثوري” بعد أن تصاعدت حدة تصفيات الشرطة السرية لأعضاء خليته وزيادة العنف ضد رجاله وأسرهم أيضا.
ورغم هذه السياسة التي تبدو مبررة في سياق الأحداث التاريخية، يبدو ماريللا نفسه في الفيلم كشاعر، رقيق المشاعر، مرهف الحس، يمتلك طاقة إنسانية، وكثيرا ما يظهر في صورة الأب الذي يحرص على ضمان سلامة ابنه، ورغبته في رؤيته والاطمئنان عليه، وهو الخطأ الذي سيرسم في نهاية المطاف مصيره المأساوي.
هناك كاريكاتيرية واضحة في تصوير رئيس جهاز الشرطة الكولونيل لوثيو، كرجل مفتون بنفسه، يتأمل بإعجاب في نرجسية واضحة صورته في المرآة بعينيه الملونتين ويتحسس شاربه الكث، وهو يبدو من الخارج ناعما رقيقا، لكنه يكشف عن وحش عنيف، سادي، مغرق في العنصرية ضد السود، يحمل كراهية خاصة ضد اليساريين، ولا يتورّع عن الفتك بخصوم النظام الذين يعتبرهم خصومه الشخصيين.
وفي مواجهته مع إحدى القيادات اليسارية بعد القبض عليه، يبدو أمامه ضئيل الحجم والقامة، مهتزا كما لو كان يعاني من الشعور بالضآلة وانعدام الثقة بالنفس مما يؤدي إلى اندفاعه في انتهاج العنف المجنون ضد الرجل الذي يشعر بأنه يهينه بثقته وتماسكه.
هذه الصورة الكاريكاتيرية تمتد أيضا إلى صورة مندوب المخابرات الأميركية الذي يظهر وكأنه الحاكم الفعلي للبرازيل، يوجه الأحداث ويصدر التعليمات والأوامر لرئيس الشرطة لوثيو، فيهدده ويمنحه مهلة محددة للقبض على ماريللا، كما يقتحم الاستوديو التلفزيوني ويأمر المذيع بقراءة البيان الذي أرسلته منظمة ماريللا الثورية وطلبت بثه كشرط لإطلاق سراح السفير الأميركي الذي تمكنت من اختطافه في تصعيد للعمليات الثورية المضادة، ما سينعكس وبالا على العناصر الثورية.
هبوط الإيقاع
يعاني الفيلم في ثلثه الأخير من الترهل والاستطرادات وبعض المشاهد الزائدة التي تساهم في هبوط الإيقاع وكان يمكن الاستغناء عنها، مثل المشهد الذي يصوّر العلاقة الجسدية بين ماريللا وكلارا، وهي والدة بيلا الفتاة الشابة التي انضمت إلى مجموعة ماريللا، والواضح أن ماريللا كان على علاقة مع الأم من قبل، ولكنها رغم انتمائها إلى الحزب الشيوعي لم تكن توافق على سياسة ماريللا، وكانت تحتج على توريط ابنتها في أعمال العنف، لكنها ستتجه بعد ذلك للتعاطف معه في ضوء تداعيات الأحداث.
ينتهي الفيلم بمقتل ماريللا كما هو معروف، وتصفية جميع العناصر الرئيسية في خليته، لكننا نفاجأ بفاصل حماسي طويل على خلفية أغنية ثورية، ومعلومات مكتوبة على الشاشة، أقرب إلى البيانات والبلاغات الثورية التحريضية، التي تؤكد “استمرار المسيرة، وأن النصر سيكون حليفنا..” إلى آخر هذه الشعارات، وهو ما يساهم في المزيد من إفقاد الفيلم حرارته كصورة بليغة عن المواجهة التي تتخذ أبعادا رمزية تشير إلى ما هو واقع اليوم في البرازيل في ظل وجود أقصى اليمين بالسلطة.
وكانت الخطة الأصلية لصناع هذا العمل أن يكون مسلسلا تلفزيونيا من 4 حلقات (على غرار مسلسل “كارلوس” الفرنسي – 2010)، وقد صنع على هذا الأساس، لكن المخرج استخرج منه نسخة سينمائية يبلغ زمن عرضها ساعتين و15 دقيقة.
ولأن الفيلم يشيد بثورية ماريللا ويصوّره في صورة “قديس مثالي”، وهو الذي أعلن أن الوسيلة الوحيدة لهزيمة الدكتاتورية العسكرية هي المواجهة المسلحة في الريف والمدينة، فقد تسلحت قطاعات أقصى اليمين في البرازيل، وشنت هجوما شديدا على الفيلم ومخرجه بمناسبة عرضه في مهرجان برلين، كما ثارت تكهنات باحتمال منع عرضه في البرازيل، كما تعرض الفيلم لهجوم مباشر من جانب الرئيس البرازيلي الذي اتهمه بالعنصرية بسبب ما دعاه “إلصاق تهمة الإرهاب والسطو المسلح بشاب أسود” في إشارة إلى إسناد دور ماريللا إلى المغني الأسود سيو خورخي.
ولا يقتصر الأمر على البرازيل بل تعامل النقد السينمائي الأوروبي والأميركي بشكل عام، بطريقة سلبية مع الفيلم، وتمّ رفضه ليس بسبب ما يصوّره في سياق فترة زمنية محددة من التاريخ كانت تعرف ما اصطلح على تسميته بـ”العنف الثوري” الذي انتهجته جماعات وتنظيمات كثيرة في أميركا اللاتينية، بل طبقا للخطاب السياسي “التصحيحي” الذي أصبح سائدا في الوقت الحالي، والذي يصف مثل هذه الحركات بـ”الإرهاب”، بينما يغض الإعلام الغربي الطرف عما تمارسه الأنظمة الدكتاتورية القمعية من “إرهاب” مضاد، وبذلك لم يعد الموقف من الفيلم موقفا جماليا بل اصطبغ بالموقف السياسي السائد في الإعلام الغربي.