فيلم صامت يمتع القلب

عندما بدأ الركاب بالتململ ضجرا وكنا قد قطعنا ثلاثة أرباع الرحلة بين الدار البيضاء ولندن، سارعت المضيفة الذكية إلى إنزال الشاشات الصغيرة من سقف الطائرة وبدأت بعرض فيلم صامت. الطائرات التي تحلق لمسافات قصيرة أو متوسطة، لا تعرض أفلاما في العادة، ولا تركب شاشات أمام الركاب. المسافة الزمنية للطيران أقصر من زمن فيلم، والطائرات المتوسطة الحجم تحاول التوفير في الوقود ولا تريد أن تزيد الوزن الثابت لها بنشر عدد من الشاشات يعادل عدد الركاب. فقط شاشة صغيرة متدلية من السقف تعرض إجراءات السلامة، وأفلاما صامتة.
وضعت الصحيفة التي كنت أقرأها جانبا، وبدأت بمشاهدة الفيلم الصامت. شيء مذهل نسيت أهميته منذ وقت طويل. كان فيلم “سباق السيارات للأطفال” لتشارلي تشابلن وهو فيلمه الثاني الذي أنتجه عام 1914. يريد ممثل شخصية المخرج في الفيلم أن يصور فيلما خبريا عن سباق السيارات من زوايا مختلفة. في كل مرة يحاول أن يصور اللقطة، يقفز أمامه تشارلي تشابلن فيحجب الرؤية مصرا على أن يظهر في الفيلم. يتطور الأمر كل مرة في مفارقات مضحكة، وتشابلن لا يكل أو يمل، رغم الضربات التي يتلقاها. بعد دقائق قليلة تغير المزاج في الطائرة وصار الركاب لا يمانعون من أن تطول الرحلة قليلا لحين إكمال الفيلم الصامت.
نحن نشاهد الأفلام الصامتة المنتجة في بدايات عصر السينما، بعد أن تشبعنا بالصوت والصورة والألوان والمؤثرات الخاصة. ومن يستعيد مشاهدة هذه الأفلام، سيكتشف حجم العبقرية في صنعها. فرغم أنها صنعت لجمهور من بدايات القرن الماضي كان ينبهر تماما بفكرة السينما، إلا أن جمهورا من القرن الحادي والعشرين يستمتع بالصنعة الجميلة والمتقنة لتشارلي تشابلن وعصره، رغم بدائية الكاميرات والإضاءة. شيء شبيه بمن يقف أمام لوحة زيتية عمرها مئات الأعوام ليستمتع بتفاصيلها رغم أن كاميرا الهاتف التي في جيبه يمكن أن تقدم صورة أكثر دقة ووضوحا من أفضل لوحة عالمية رسمت بالأمس أو اليوم.
في واقع مزرٍ في مختلف أرجاء العالم في تلك الفترة الكئيبة من تاريخ البشرية، كانت الأفلام الصامتة جرعة السعادة التي تقدمها المشاهد الكوميدية للجمهور. لا تستطيع إلا أن تضحك وأنت تشاهد حركات تشارلي تشابلن في فيلم “الطفل” رغم المواقف المأساوية الكثيرة. الثنائي لوريل وهاردي تحولا إلى ظاهرة كوميدية من أول فيلم لهما. مشاهدة فيلم “كلب محظوظ” اليوم على يوتيوب تنتزع الضحك انتزاعا. العناد والغضب والنكتة بين لوريل وهاردي تلمسهم رغم أن لا صوت ولا كلام بينهما. فيلم صامت، لكنه فيلم يمتع القلب بالتفاصيل.
الصمت جميل. يعطي راحة للإنسان في عالم صاخب. السينما نفسها التي طلقت الصمت منذ سنوات طويلة، عادت إليه عام 2011 في فيلم “الفنان” الفرنسي الذي كان أسود وأبيض وصامتا. فاز الفيلم بخمسة أوسكارات من عشرة رشح لها، وحصد جوائز السينما من هنا وهناك، مرورا بالبافتا وكان وسيزار. صمت يستطيع أن يربح الجوائز مثله مثل أكثر الأفلام موسيقى وحوارا.