فيلم "بداية" لقاء جمالي يجمع الشعر بالسينما

لا حياة إلاّ بالحب.. صرخة أمل سورية في عالم يحتويه الخراب.
السبت 2021/10/16
من رحم الأحزان يولد الأمل للنهوض من جديد

يسعى الفيلم السوري "بداية" لتقديم حالة تماه بين مفهومي الحياة والحب، مؤكّدا على تلازم المعنيين في رسم مصائر حيوات الناس والمدن وتحقيق أحلامهم المستقبلية. فيلم يصوّر دمشق المعاصرة، المدينة التي عاشت أحداثا قاسية بسبب الحرب، وهو يحكي بعضا ممّا قاساه أهلها، وإيمانهم بالأمل في رسم الأحلام مجدّدا بعد انجلاء مرحلة الحرب.

"لا أمل لنا في متابعة الحياة إلاّ بالحب، فهو سبيلنا الوحيد لكي نعيش"، هكذا يقدّم المخرج السوري طارق مصطفى عدوان فيلمه الروائي القصير الأول “بداية” الذي تنتجه المؤسسة العامة للسينما عن نص ألفته عهد صبيحة.

وتحضر في الفيلم العديد من الشخصيات التي تتقاطع حيواتها في مكان وزمان واحد لتحكي عن ماض قريب وترسم رؤى مستقبلية. رجل كهل وشاب عاشق وسيدة تعيش حالة فوضى، تتربّص بهم الحياة، فتسحقهم بسطوتها وقسوتها، فيتحوّلون إلى شخصيات تعيش حالات لا نهائية من الألم.

هذه الشخصيات هي واجهة أحداث مدينة عاشت زمن حرب وقاسى أهلها ويلاتها فباتت شبه مدمرة، يعيش من بقي فيها على أعتاب الأمل، بعد أن خنقها وضع حربي قاس جعل من حياة الناس فيها مشوبا بالعذاب، لكن الأمل لا يغيب، والبدايات تخلق دائما خطوطا نحو آفاق جديدة، فبعد فكّ العزلة عنها، ومع الأيام الأولى لفتح المدينة أمام الناس، تعود عجلة الحياة إليها لتعيش أحداثها مجدّدا، نحو المزيد من الأمل والتشوّق لما قد يحمله الغد من أحلام أو انكسارات.

شخصيات وحيوات

طارق مصطفى عدوان: غاية السينمائي أن يكون متفاعلا مع الجمهور عبر أفلامه

عن مشروعه السينمائي الأول وما يريد أن يقدّمه فيه، يبيّن المخرج طارق مصطفى عدوان لـ”العرب”، “هو فيلم لا يدعو إلى التشاؤم ولا حتى إلى التفاؤل، بل يشير بكل وضوح إلى أنه لا سبيل لنا إلاّ بأن نعيش الحياة، ولن يمكننا تحقيق ذلك إلاّ من خلال الحب. لم أهتم بإيجاد تاريخ للشخصيات بقدر اهتمامي بأن أعرف ذلك من خلال ما كان منها سابقا عبر شبكة العلاقات الحاصلة في ما بينهم”.

والفيلم هو المشروع الأول لعدوان في مجال السينما، وهو التخصّص الذي درسه في أرمينيا، بعد أن عمل لفترة طويلة في التلفزيون وكذلك في الصحافة الفنية والترجمة، ويقول “أنا سعيد بما فعلت في هذين الجانبين، لكنني كنت وما زلت أبحث عن مشروعي السينمائي الذي أرغب في أن يكون مختلفا، ومن خلال فيلم ‘بداية’ أضع أول ملامحي في فن السينما”.

وعن آماله من الفيلم يُتابع “أعلق آمالا كبيرة على هذا الفيلم، وأتمنى أن يكون ممرّا نحو تحقيق حلمي بتقديم فيلم روائي طويل ناجح، لديّ العديد من النصوص التي كتبتها منذ سنوات، وهي تبحث عن فرصة إنتاجية حتى يراها الجمهور. فغاية المبدع السينمائي أن يكون متفاعلا مع الجمهور بشكل دائم، وهذا ما أبحث عنه”.

ويضيف “اعتمدت في الفيلم لغة سينمائية صرفة، فكان الحوار قليلا إلى أبعد درجة، وجعلته موجودا في بعض المشاهد فقط، حتى أوضّح من خلاله بعض الأشياء التي لا بد منها ضمن سياق الحدث، فالحوار الزائد في السينما يشوّش على المتلقي ويضيع الحالة المشهدية البصرية التي هي الأساس هنا”.

مأمون الخطيب، المسرحي السوري الذي قدّم منذ فترة أحدث أفلامه “الطريق” مع المخرج عبداللطيف عبدالحميد، يجسّد في فيلم عدوان شخصية الرجل الذي يتعامل مع أحداث الفيلم بحالة ذهنية خاصة، بين الوعي واللاوعي، وهو الذي يصرّ على العودة إلى مكان يتأصل فيه.

يقول عن تجربته في الفيلم “عملت مع طارق عدوان سابقا في المسرح، وأنا سعيد بعملي معه الآن، النص حالة خاصة من المشاعر والمواقف الإنسانية، وهو يحمل رسالات ودلالات تتعلق بالحب بشكل عام. فالرجل الكهل الذي يعيش حياة صعبة الآن لا ينفك عن تقديم طاقة الحب رغم حالته الصحية المتدهورة”.

ويتابع “أنا ممتن لجهود المخرج في سبيل تنفيذ هذا العمل، الجو في الكواليس لطيف وفريق العمل متعاون إلى أبعد درجة، وأنا متفائل بأن يكون للفيلم جانب كبير من النجاح كونه يحمل ملامح خاصة”.

نشوان (الممثل إياد عيسى) شاب عاشق يبحث عن حبيبته ويعيش حالة صحية خاصة ويحيط به مصير مختلف، لكنه يصرّ على أن يتمسّك بحبه إلى أبعد حدّ ممكن. يقول عيسى عن مشاركته “أصابتني الرهبة عندما زرت موقع التصوير للمرة الأولى، وبعد أن شاهدت حال البيوت والأحياء التي نصوّر فيها، ولا شك أن الناس قد واجهوا أوقاتا عسيرة هنا أثناء الحرب، سعيد بأنني أقدّم أول أعمالي الاحترافية في مجال السينما بالتعاون مع عدوان الشخص المثقف الذي يعرف تماما ما يريد”.

ويضيف “شخصية نشوان فيها الكثير من الحضور الإنساني الصافي والنبيل والذي يقدّم جهده لمساعدة الآخرين، ونتيجة لما قاساه وعاشه من ظروف صعبة يواجه مصيرا مختلفا وحالة صحية خاصة رغم كونه شابا، نشوان هو عينة من الكثير من الناس الذين كانوا هنا، ثم أصبحت لهم مصائر جديدة، ربما بالسفر أو الرحيل للأبد، هي مصائر مجهولة ومشاعر مختلطة، ولكن الإرادة موجودة بالتمسّك بالحياة”.

أمنيات شاعرية

لا شيء سوى الذكريات
لا شيء سوى الذكريات

في حضور للشعر في السينما، ترتسم أماني شعر جميل بثينة في معان سينمائية يقدّمها عدوان في فيلمه عبر إسقاط شعري قديم على واقع سينمائي حديث، حيث العتب على زمان مضى ترك على البعض آثاره ولم يفعل مع البعض الآخر.

ففي الفيلم شخوص غيّرها الزمن وشخوص لم يفعل بها ذلك في استرجاع لما قاله جميل بثينة في شعره قديما مخاطبا حبيبته بثينة “قريبان مربعنا واحد.. فكيف كبرت ولم تكبري”.

وفيلم “بداية” هو أحدث إنتاجات المؤسسة العامة للسينما بسوريا، وهو من تأليف عهد صبيحة وإخراج طارق مصطفى عدوان، وأدار الإنتاج فيه مغيث ديب وقام بأعمال التصوير والإضاءة باسل سراولجي، أما التمثيل فكان لكل من مأمون الخطيب ورنا جمول وروبين عيسى ومحمد وحيد قزق وريموندا عبود وإياد عيسى وسيزار القاضي وعدنان عربيني ونور خلف.

وتعلّم المخرج طارق مصطفى عدوان فنون السينما أكاديميا في أرمينيا، ونال من فنانيها الكثير من المعارف وحب الفن السابع. ورغم ابتعاده عنها جغرافيا لسنوات، لكن علاقته الوجدانية بها لم تنقطع يوما، فما زالت في باله محطة الحلم السينمائي ومرتع ذكريات شباب الفن.

كتب فيها بعد سنوات من الغياب “في المدينة الوردية كما يسميها عشاقها وشعراؤها ومجانينها الجميلون، في يريفان -دمعة جبال أرارات- النازفة منذ الأزل.. في تلك المدينة التي ليس لحاراتها أبواب، فهي ترقص منذ ولادة الإيقاع والرنين، ولا يحترف أبناؤها إلاّ فن الابتسامة والندامة.. والعزف على الدودوك”.

عمل عدوان في الترجمة وقدّم كتابا عن السينما الأرمنية لروبرت ماتوسيان، صدر بعنوان “السينما الأرمنية درب التبانة” ضمن سلسلة الفن السابع الصادرة عن المؤسسة العامة للسينما في وزارة الثقافة السورية.

وقدّم الكتاب توثيقا لأحداث ولقاءات جمعت مؤلفه بمشاهير عالمية أرمنية الأصل مثل المخرج الفرنسي آنري فيرنوي وتحدّث عن فنان الشعب الأرمني غورغين جانبيكيان وكذلك الكاتب الشهير وليم سارويان. لكن الأهم في الكتاب كان الجانب السياسي،  فقد تحدّث عن الظروف التي رافقت إنتاج فيلم “لون الرمان” للمخرج السوفييتي الأرمني الشهير سيرجي باراجانوف، وكيف رفضت السلطات الفيلم، ومن ثم اعتقاله  في العام 1973. لكن سينمائيين عالميين مثل فيليني وأنطونيوني وبيرغمان وغودار والكاتب آراغون وغيرهم شكّلوا لجنة للدفاع عنه، وقد مارسوا ضغوطا على الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف لإطلاق سراحه حتى كان ذلك  نهاية عام 1978.

15