فيلم "باربي".. كوميديا الفدرلة الجندرية

أثار فيلم “باربي” ولا يزال يثير انتقادات واسعة، ومنعته الكثير من الدول العربية دون أن يخضع العمل لتحليل فكري وأيديولوجي نحاول من خلاله فهم الموضوع العام للعمل، الذي ينبئ بفدرلة جندرية تنتصر للنسوية وتلغي الرجل متخذة تشددا فكريا كبيرا سيؤدي مستقبلا إلى مطالب نسوية أوسع.
إن كان لا بدّ من الفيدرالية في العالم العربي، أعطونا الإنسان، وخذوا الأنظمة والجمادات والحيوانات وافعلوا بها ما شئتم. المرأة الباربي في فيلم “باربي” هي امرأة ناجحة ومستقلّة تتفوّق في مجال عملها، تمتلك منزل أحلامها وسيارتها واستقرارها المالي دون الشراكة مع الرجل لتحقيق أيّ من إنجازاتها.
“باربي” هو فيلم أميركي رومانسي من إخراج غريتا غيرويغ، صدر في عام 2023، من بطولة مارجو روبي ورايان غوسلينغ وأميركا فيرارا وسيمو ليو وكيت مكينون وألكسندرا شيب وإيما ماكي وويل فيرل وإيسا راي ومايكل سيرا وهاري نيف.
في هذه السردية يلعب الرجال في عالم الباربي دورا ثانويا أو احتياطيا. كما يقدّم العمل وجهة نظر تقر بأن سعادة باربي تكمن في إنجازاتها الشخصية وعلاقاتها مع زميلاتها الباربي فقط، بدلا من الشراكة مع الذكور للتحقّق من فعلها للأشياء.
إنّ فيلم “باربي” من الناحية الموضوعاتية (الموضوع) يعبّر عن مجتمع خاص به وفق ظروف مغايرة تماما للمجتمع العربي، لذلك ما هو مقبول في الغرب ليس بالضرورة أن يكون مقبولا عند العرب؛ إذ تغادر لعبة باربي علبتها البلاستيكية الفنتاستيكية لتؤدي عرضا من الكوميديا السوداء، حيث يظهر عالم أحاديّ اللون هو الوردي والاتجاه النسوي يشتبك مباشرةً مع عالم الرجال المستغلّ، ولكن سرعان ما يتضّح للمشاهد زيف هذه الرؤية لأن اللون هذا والاتجاه الأحادي ذاك يتاجران بأحلام النساء، ويدجنانهنّ ليتلاءمن مع ذوق الرجال الذين تستبعدهن النسويات. فباربي امرأة مثالية بالنسبة إلى الرجال من حيث الشكل والهيئة. لهذا تقاتل النساء ليصبحن مثلها، حتى لو كان بعضهنّ نسويات!
إنّ الفيلم أجاد في التعبير عن أطر العلاقة بين الرجل والمرأة الغربيين في حين أنّ العرب يقتصر دورهم على تلقي الفيلم دون الحقّ في التأثّر به، فإذا تكلمنا عن التأثير المباشر فيفترض أن تكون ظروف الفيلم حادثة عندنا أو ممكنة الحدوث؛ إذ إنّ العربي المشاهد لباربي هو مشاهد لفيلم أيّ فيلم من هوليوود مع ميزة سلبية، أنّ الفيلم هذا يخضع لقواعد وقوانين خاصة جداً بالمجتمع الغربي، إذاً فليقل خيراً في الدفاع عن مجتمع عربي أصيل أو ليشاهد بصمت.
ولمّا نقول الدفاع نعني أنّ هنالك زمرة منّا ممن هم خارجون عن المجتمع العربي يؤيّدون كل ما هو غربي ويؤوون إلى الغرب كما يؤوي الأرنب الجريح داخل أيّ قفص.
إنّ فيلم “باربي” ذا التيار النسوي المتطرّف يتقارب موضوعاتيا واجتماعيا مع تيار إسلامي هو الآخر متطرّف “السلفي/ الماضوي”، وكلاهما يؤديان نفس الوظيفة الاجتماعية الخاصة بالمرأة “الفدرلة الجندرية” و”أدلجة الجسد”، أي عزل وإقصاء المرأة وشؤونها الأنثوية معنويا وماديا عن حياة الرجل، فتغدو هي الرجل الذي تكرهه في التيار النسوي المتطرّف، وتصبح أيضا في التيار الإسلامي المتطرّف البساط الأحمر الذي يدوسه الرجل ويعزّز من ذكوريته، وكلاهما وجهان لعملة التطرّف؛ واحد بالزائد والآخر بالناقص، في حين أنّ العدالة الإنسانية والوسطية الدينية تقتضيان أن يكون الرجل والمرأة شريكين في الوجود والعدم، في الحياة والموت، في كلّ الثنائيات الضدية.
كما يدعم ذلك النظام الاجتماعي الربوبي في رؤيته لتنظيم العلاقة الجندرية بين الرجل والمرأة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..” الحجرات (13)/ “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..” الروم (21)، ولم يقل الله في القرآن الكريم شعوبا جندرية متقاتلة أو أنفسًا تمزّقونها.
إنّ الفيلم يحاكي نظام الفدرلة في الولايات المتحدة لمزيد من الاستقلال، ليس فقط على صعيدي الجيوسياسي أو الجيوغرافي بل حتى على صعيد الجيوجندري أو البيوسياسي “الفدرلة الجندرية”؛ حيث إنّ فيلم “باربي” هو ثورة نسوية تنجح ولو مرةً واحدةً، في عالم فانتازيا لا يقرب الواقع، وهو بشكل أدقّ تمهيد لواقع قادم “دسّ نبض”. حيث إنّ الأمر تمهيد لإزالة الرجل من الوجود مستقبلاً، لأنّ الصورة الجديدة للباربي هي امرأة مستقلة ناجحة من دون وجود رجل، كما تشكّك في ضرورة الزواج وبناء الأسرة، وتصويرهما عائقا أمام التطوّر الذاتي للمرأة، بغية الحفاظ على استقلال فيدرالي شكلي يحميها من آثار الحمل وتغيّر الصورة، وآخر فيدرالي معنوي يحميها من مساندة الرجل أو استنادها عليه.
وإذا كان الحاصل ذلك فسنرى يوما ليس ببعيد جزرا وأقاليم تحتشد فيها النساء مطالبات باستقلال أراضٍ أو أقاليم خاصة بهنّ؛ أي قيام دولة نسوية داخل ولاية اتحادية أو دولة لها اسم خاص معني بتلك المسألة. فمثلما شهد المشهد الإسلامي المتطرّف فدرلة جندرية بدعاوي حظر الاختلاط والفتنة على صعيد المدارس والأسواق والمؤسّسات، سيشهد الغرب ذلك بصورة أكثر قتامة وأوسع نفوذا بدعاوي النسوية والمساواة والحريّات.