فيلم "المقهى" عبثية الرعب والخطر والكوميديا السوداء

ليس من الممكن تصنيف فيلم “البار” الإسباني في نوعية أفلام الرعب، فهو في الحقيقة أقرب ما يكون إلى أفلام العبث والكوميديا السوداء التي تصل إلى تخوم السريالية.
كان من الممكن أن يأتي الفيلم الإسباني “البار” (أو المقهى) The Bar عملا فنيا كبيرا يرقى إلى مستوى الأعمال الكبرى في السينما، فقد توفرت له شخصيات متباينة حقيقية وبسيطة من تلك التي يمكن أن تقابلها كل يوم في المقهى أو على ناصية الشارع أو في الحافلة، إلاّ أن السيناريو الذي بدأ بداية قوية مثيرة سرعان ما أصبح يُراوح مكانه، مع دوران تلك الشخصيات حول نفسها من دون تطوير للفكرة، وأفلتت بالتالي الفرصة من بين يدي المخرج أليكس دو لا أجليثيا خاصة، وقد غابت عن السيناريو الرؤية الفلسفية العميقة التي كان يمكن أن تكسب أحداثه معنى أكثر قوة، كما لجأ الممثلون إلى الصياح والثرثرة وسقطوا في الأداء النمطي.
فكرة بسيطة
فكرة الفيلم بسيطة، ولكن كم من الأفكار البسيطة صنعت أعمالا كبيرة، ولكننا أمام عمل بسيط كان يمكن أن يتميز بالكثير من الحيوية والحركة، ويصبح تجربة مثيرة على مستوى الخيال، إلاّ أن الفيلم سرعان ما فقد حرارته وإيقاعه، وتوقف عاجزا عن التطور بعد أن انقضى نصف زمنه، ليظل مخرجه يبحث عن “مخرج” لأبطاله من المأزق الذي وضعهم فيه.
والفكرة هي اجتماع عدد من الشخصيات تعكس التباين الاجتماعي داخل صفوف الطبقة الوسطى في العاصمة الإسبانية مدريد، صباح أحد الأيام العادية، داخل مقصف أو مقهى على الطريقة الإسبانية، ثم يقع حدث جلل لا يملك له أحد تفسيرا فتصبح حياة الجميع مهددة على نحو ما، وهنا تسفر تلك الشخصيات بخلفياتها المتباينة، عن حقائق تختفي تحت تلك القشرة الزائفة من النفاق البورجوازي المعهود، ومع ارتفاع حدة المحنة وتصاعد التوتر والتهديد يتحول الجميع إلى حيوانات همجية هائجة على استعداد للفتك ببعضها البعض من أجل النجاة.
المكان محدود للغاية، والكاميرا لا تغادر هذا المكان سوى لبضعة أمتار إلى الخارج مرة أو مرتين فقط، وحتى المناظر التي نشاهدها أحيانا لما يحدث في الشارع، نراها من خلال النوافذ أو الأبواب الزجاجية لهذا المقهى، ويصبح التحدي السينمائي أمام المخرج هو إحكام السيطرة على مجموعة لا تقل عن أحد عشر شخصا، وضمان أن يتمتع الفيلم بالإيقاع المتدفق والانتقال بين هذه الشخصيات كلها ومنحها جميعها، مساحات مناسبة، دون أن تطغى إحداها على الأخرى، أضف إلى ذلك قدرة فيلم تغيب عنه الحبكة أو العقدة والذروة التقليدية، على جعل المتفرج يبقى في مقعده لمدة ساعتين أمام هذه الحالة التي تصل إلى قدر كبير من الفوضى.
في البداية يدخل رجل إلى المقهى لقضاء حاجته في دورة المياه، تلعنه صاحبة المقهى التي تعرف أنه شرطي متقاعد، يغادر رجل آخر المقهى لكنه يلقى مصرعه برصاصة في رأسه على الفور ويسقط أمام المقهى، يحاول رجل آخر نجدته ولكن ما أن يغادر المقهى حتى يلقى بدوره مصرعه بالطريقة نفسها.
ما الذي يحدث ومن الذي يطلق الرصاص وهل أتت الرصاصات القاتلة من الخارج أم من الداخل، وهل هناك إرهابي من بين الموجودين؟ تبدأ الشكوك بين الجميع، ويرتفع الصياح، ويكتشف الجميع أن الرجل الذي تسلل إلى دورة المياه قبل قليل مدمن هيروين وأنه توفي لكنهم يشتبهون في وجود وباء يمكن أن ينتشر بالعدوى عن طريق ملامسة الجلد، خاصة بعدما اختفت جثتا القتيلين في الخارج، وحضر رجال الشرطة وقاموا بإشعال النار في بعض عجلات السيارات دون أن يهتموا بالمحبوسين في الداخل بل عزلوا المقهى تماما فهرع الجميع في الداخل إلى الطابق السفلي للاختباء.
بين المجموعة فتاة حسناء كانت ذاهبة لملاقاة شاب تعرفت عليه عن طريق أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وشاب يعمل في تصميم الإعلانات، ورجل سيتضح أنه مغرم بالتشبه بالنساء، ورابع يعمل مساعدا لصاحبة المقهى، وامرأة بدينة لا تثق بالآخرين، ورجل ملتح جعله المخرج على غرار الصورة الشائعة للمسيح يدعى “إسرائيل”، يردد عبارات من الإنجيل، لكنه شرير وقاس ويشعر بالحقد الشديد والغضب على الموجودين جميعا لكونه الوحيد الفقير بينهم.
يعثرون في جيب الميت على 4 كبسولات يعتقدون أنها تحتوي مصلا مضادا للوباء الفيروسي القاتل الذي يتهدد الجميع، لكن الرجل الشرير (إسرائيل) يختطف الكبسولات ثم يهبط للطابق السفلي الذي يصبح في النصف الثاني من الفيلم مكان الصراع الوحشي الهمجي بين من تبقى من المجموعة، بينما تتخلص الشرطة ممن بقوا في الطابق العلوي ومن بينهم صاحبة المقهى، يحترق المقهى وتتفحم جثث من كانوا قبل قليل على قيد الحياة.
أسئلة عالقة
يشتد الصراع في الفيلم الذي يتخذ طابع الكوميديا السوداء والبحث الشاق عن النجاة، ولكن من الذي سيتمكن من النجاة ومن الذي سيموت، وهل سيمكن لمن ينجو الخروج من هذا المستنقع المليء بالقاذورات إلى الحياة الحقيقية في الشارع، وما الذي يحدث في المدينة، هل تعرضت لهجوم إرهابي، وما هذه الحرائق التي يبثها التلفزيون؟ كلها أسئلة مقصود بها إثارة الاهتمام مع إضفاء قدر من الغموض على الفيلم.
تعتمد الكوميديا على المفارقات، وعلى التناقضات الواضحة بين الشخصيات، والحوار الساخر، لكن الفيلم يحمل في طياته نغمة تحذر مما يمكن أن يحدث في حالة تعرض المدينة لهجوم إرهابي، مصورا كيف يتحول الجميع إلى وحوش يسعون للنجاة على حساب غيرهم، ويشير إلى احتمال تآمر السلطات من أجل إشاعة الفزع ثم عودة الفاشية للسيطرة على مقاليد الأمور في البلاد أي إلى عهد الجنرال فرانكو.
رجال الأمن يحرقون ويقتلون كل من يخرج من المقهى، ربما لاعتقادهم أن الضابط المصاب الذي لقي مصرعه في الداخل نقل العدوى بالفعل إلى الآخرين، وكان يحمل المصل المضاد في جيبه لكنه لم يتمكن من استخدامه وقد عثروا عليه داخل الحمام ميتا بعد أن تعاطى جرعة زائدة من المخدرات لتسكين آلامه.. فما هو هذا الفيروس الذي ينتقل باللمس، ومن أين جاء، وما العمل مع باقي سكان المدينة وماذا سيحدث لهم؟
هذه الأفكار والتساؤلات لا تصل بنا إلى شيء محدد، فالهدف الأساسي من الفيلم هو الإضحاك والسخرية السوداء المريرة من رجال ونساء الطبقة الوسطى، وتصوير نموذج الرجل المتدين، كنمط شرير سادي كلبي، لا يقيم وزنا للمشاعر الإنسانية ولا يهمه سوى مصلحته الشخصية على حساب الجميع، وتصوير التدني الذي يصل إليه الجميع في سلوكياتهم مع شعورهم بالخطر.
هناك الكثير من اللقطات من زوايا غريبة، للوجوه ولمجموعات من الشخصيات وقد التصقت ببعضها البعض، كما أن هناك استخداما لفكرة الجحيم من خلال الصراع الذي يدور داخل ديكورات الطابق السفلي التي تبدو مثل المتاهة اللانهائية المليئة بالحرائق والانفجارات، ويصل الفيلم في بعض مشاهده وتكويناته اللونية والبصرية إلى السريالية مع الشعور بعبثية الموقف بأسره، فنحن في النهاية نشاهد انعكاسات مأزق نتج عن حادث غير معروفة أسبابه تماما، قد يكون بأسره خيالا مريضا أو نتيجة لما هو مستقر من قبل في الوعي الجمعي في الظروف التي يمر بها العالم حاليا.
ازدحام الشخصيات وتداخل الحوار وارتفاع الأصوات وتدفق الكلام بشكل لا ينقطع طوال الوقت، تقلل كثيرا من قدرة المتفرج على التركيز والتقاط التفاصيل، خاصة مع الميل إلى التكرار والاستطرادات.
مستوى التمثيل في الفيلم يختلف من ممثل إلى آخر، وتبرز بين مجموعة الممثلين الممثلة الإسبانية بلانكا سواريز (33 سنة) زوجة المخرج، الذي يركز كثيرا على وجهها وملامحها الجميلة وانفعالاتها في لقطات كبيرة، ويجعلها أيضا الوحيدة من بين شخصيات الفيلم التي تتمتع بحس إنساني تجاه الآخرين، وربما تصبح هي الناجية الوحيدة أيضا!