فيسبوك وتويتر لا يمكنهما أن ينجبا شعراء وكتّابا

فجرت مواقع التواصل الاجتماعي ثورة في عالم الأدب العربي، قرّبت المتباعدين من بعضهم، فصار الكاتب والناشر والقارئ في فضاء واحد، وهذا ما بشّر بأدب جديد لكن لا يبدو الأمر كذلك بعد مرور أكثر من عشر سنوات على انتشار هذه المواقع واكتساحها عالم الأدب الذي أفادته وأضرت به في وقت واحد.
ساهم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة موقع فيسبوك وبدرجة ثانية تويتر في تغيير الواقع الأدبي العربي، من حيث الكتابة والقراءة وحتى صناعة النشر التي استفادت من سلاسة هذه المواقع في التواصل وبالتالي التوزيع والترويج.
لكن هل تغير الأدب إلى الأفضل؟ وهل ساهمت هذه المواقع في تطوير التجارب الأدبية وخلق حركية حقيقية فعالة على مستوى النصوص ومقروئيتها؟
جو الحرية
الكتابة مشروع يطبخ على مهل وبوعي وجهد واشتغال دؤوب وهذا ما لا توفره مطلقا وسائل التواصل الاجتماعي
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي تراجعت سطوة الرقابة على الأدب، وتراجعت هيمنة الشلليات الثقافية ومنابر الإعلام التقليدية من صحف ومجلات وإعلام مسموع ومرئي، وتغيرت القنوات التي كان على الكاتب أن يمرّ عبرها مستعينا بآخرين لنشر أعماله وتقديم نفسه للقراء.
اليوم لكل كاتب صفحته الخاصة، ينشر فيها ما يشاء ومتى يشاء، وهذا الوضع الذي تعاظم في السنوات العشر الأخيرة ساهم في ولادة أسماء أدبية ما كان لها لتظهر لولاه، خاصة تلك التي لا تملك جماعة خلفها أو من يروّج لها أو من يدعمها من خارج النص طبعا، فيما يُفترض منها الولاء والانخراط في وليمة الجماعة أو مواءمة ذوقهم المشترك.
نعم ساهمت مواقع فيسبوك وتويتر بشكل خاص في انتشار أدب جديد، أدب مأخوذ بالنفس التحرري الذي اندلع في البلدان العربية بعد ما سمّي بالربيع العربي والثورات التي صارت تراجيديات غير مسبوقة.
أسماء عديدة خاصة من الشباب قدمتها مواقع التواصل للقراء، ولكنها أيضا ساهمت في تقريب المكرسين كذلك من قرائهم، وانعكست بشكل أو بآخر على علاقتهم بهؤلاء القراء والترويج لأعمالهم المطبوعة، وانعكست على وجودهم الذي لم يعد مقتصرا على التظاهرات الأدبية أو الثقافية بل وأيضا في هذا المجتمع الافتراضي الموازي، والذي لا نبالغ إن قلنا إنه يتحكم في الواقع، فلولاه مثلا لما كانت هناك ثورات من أصله. وذاك موضوع آخر.
إذن أسماء شابة وأخرى لها تجاربها جنبا إلى جنب في فضاء لا حواجز فيه، كان الجوّ حرا ومبشرا وحركيا، حتى أن الشباب أصدروا بدورهم كتبهم، حتى أولئك الذين كانوا ضد الكتب الورقية، انخرطوا في لعبة الورق، إذ تبين أن الوجود الافتراضي رغم أهميته يبقى هشا بلا داعم في الواقع، داعم ملموس.
الكتب الأولى دائما فيها ذلك الاندفاع والتمرد والسعي إلى تركيز اسم صاحبها بخطوة واثقة في عالم الكُتّاب والشعراء، لكن الكتاب الثاني لصاحبه هو الذي يعتبر تغيير خطوة ومنه يبدأ خوض مغامرة الطريق.
بعض الشباب توقفوا في كتابهم الأول وآخرون استمروا بعمل ثان، وآخرون واصلوا أبعد من ذلك، وصارت عندنا تجارب يمكن الحديث عنها وفيها.
حتى الكتّاب المكرسون صاروا أكثر جرأة منهم من التحق بركب التحرر وحاول تغيير أساليبه ونفسه وتجديد ذاته ونجح، ومنهم من أخفق بل وسقطت عنه أقنعة كثيرة في واقع قراؤه الشباب لا يتساهلون ولا ينحازون، (وهذا يبدو أنه مشكوك فيه كما ستبين السنوات اللاحقة). كتابة حرة وقراءة صادقة، شباب الكتاب مع شيوخهم ناشرون يحاولون استمالة الجدد يا له من مشهد كان ينبئ بثورة أدبية، ولكنها لم تحدث.
اختلاف جوهري

الكتابة مشروع، والمشروع يطبخ على مهل وبوعي وجهد واشتغال دؤوب يملؤه الخطأ والتشذيب والتنقيح والمحو وإعادة البناء، المشروع يحتاج إلى الزمن وإلى صبر وتطوير تقوده الذات بعيدا عن الصخب ولفت الانتباه. وهذا ما لا توفره مطلقا وسائل التواصل الاجتماعي.
وسائل التواصل تقوم في عمقها على وتيرة سريعة، وتسعى في غالبها للفت الانتباه، وخلق تواصل دائم سريع وسهل ومبني على صور منتقاة بعناية، صور وقعت “فلترتها” فيطرح كلّ نفسه بالوجه الخالي من الشوائب والآراء الملتقطة من هنا وهناك ويقدم نفسه في تصورات وصور قد لا تعكس حقيقته مطلقا.
من ناحية أخرى كسَرت هذه المواقع عزلة الذات الكاتبة، صارت مطابخ الكتاب مفتوحة، وهم مطالبون بالسرعة أمام جمهور متلهف للاستهلاك السريع، كما فتحت هذه المواقع النصوص والقراءات على بعضها بعضا، حتى أن الكثيرين باتوا يقرأون نفس الكتب، ويكتبون بنفس الطريقة، ولهم نفس الخيال والأسلوب والمعجم، إذ يكتب الأغلبية بيد الجماعة لا بأيديهم، جماعة جديدة أخطر وأقوى من الجماعات القديمة، إذ لا أرض ثابتة لها، فقط تحركها الإشاعة والانفعال.
حتى القراء الذين وصفناهم بالصدق والحياد وعدم التساهل صاروا بدورهم أحزابا، بل وجنودا لمهاجمة هذا وتمجيد ذاك، وتحولت مجموعات القراءة بمن فيها من تحفيز على القراءة والكتابة إلى محاكم بلا قوانين ثابتة.
مواقع فيسبوك وتويتر ساهمت بشكل خاص في انتشار أدب جديد مأخوذ بالنفس التحرري لكنه سرعان ما بدأ يخبو
حتى القراءة صار التفاعل فيها عبر إصبع أو قلب، أحيانا لا يكون المتفاعل قد قرأ النص من أصله، بل هو مجاملة للشخص لغاية ما.
الشعر كان الأكثر استفادة من مواقع التواصل، فلننظر إلى حاله اليوم، شعراء كثيرون بدأوا مميزين على هذه المواقع، ومع الوقت انحدروا بشكل مدهش، ربما لأنهم لم يحصنوا ذواتهم كفاية من غواية العالم الأزرق. آخرون يحاولون فيما تلاحقهم إشاعات حتى من خارج النص، أخلاقية مثلا، فالقراء الجدد يتدخلون باسم الجماعة في حياة الكاتب، والكتّاب أنفسهم ينساقون وراء تلك الموجة أو تلك. إنه عالم لا يوفر أجواء تركيز مشروع يتطور.
صحيح أن مواقع التواصل غيرت الأدب العربي في الشعر والقصة والرواية والقصة القصيرة جدا والمسرح وغيرها، وأعطتها مساحات أخرى للوجود والابتكار والانفتاح، لكنها أيضا التهمت الكثيرين محوّلة إياهم إلى مرددين، وإلى فرق تجمعهم الولائم الافتراضية والحقيقية وتفرّقهم الإشاعة والأمور الشخصية، أين الأدب في هذا؟ لا وجود له.
ولو أنّه من القسوة قول ذلك، ولكن وسائل التواصل لا يمكنها أن تنجب شعراء أو كتابا لهم مشاريعهم الخاصة، لأن جوهرها أصلا ضد النمو الطبيعي الذي يحتاجه أيّ كائن حي والنصوص كائنات حية.
يحتاج أيّ كاتب وشاعر ومبدع إلى عزلته وإلى البحث عن صوته الخاص الذي ينحته بجهد ويصقله وفق وعيه وأفكاره الخاصة وقراءاته ومشاهداته وحياته وتقاطعاته مع الآخرين ومع ما يحدث في التاريخ الذي يتحول إلى تاريخ شخصي، ومن الذات في كل تقاطعاتها تلك يولد الأدب في بيئته ليذهب إلى العالمية.
من ناحية أخرى قد تفلح هذه المواقع في خلق شعر وأدب خاصّين بها، وهو ما بدأ بالفعل، بانتشار النصوص القصيرة والكلام السطحي والإثارة، وربما في المستقبل القريب لن يكون هناك كتّاب من أصله بل نصوص روبوتية.