"فوغ باريس" نموذج لمجلات كبرى أجبرتها الأزمة الاقتصادية على التغير

التسريح جزء من هيكلة شاملة لإمبراطورية نشر المجلات.
الاثنين 2021/10/11
شبكات التواصل الاجتماعي أحدثت "زوبعة" عصفت بـالمجلات

فرضت الأزمة المالية على المجلات في العالم أجمع مجموعة من التغيرات سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو البنية الهيكلية لمؤسساتها، ورمز الأناقة والموضة “فوغ باريس” لم تكن بعيدة عن هذا المشهد خلال احتفائها بمئويتها الأولى.

باريس – تحتفي مجلة “فوغ باريس” رمز الأناقة والموضة بمئويتها الأولى على وقع أزمة مالية أجبرتها على إجراء تغيرات كبيرة، والرضوخ للهيمنة الأميركية بعد تاريخ طويل من الشد والجذب بين النسختين الباريسية والنيويوركية، في مؤشر على مدى حجم الأزمة التي لم تسلم منها كبرى المطبوعات في العالم.

وتواجه “فوغ” كما هو الحال في أوساط الصحافة المطبوعة، تراجعا في المبيعات والعائدات الإعلانية في العصر الرقمي، وهي إن كانت تحافظ على وجودها إلا أنها وبسبب التقشف شهدت إجراءات لم يكن أحد يتوقعها، فحتى الآن لم يحل أحد محلّ إيمانويل ألت التي صرفت من مهامها بعد عشر سنوات على رأس “فوغ باريس” في مايو الماضي، وقد تم الاستغناء عن عدد من كبار المحررين في “فوغ باريس” و”فانيتي فاير” التابعة لنفس المجموعة.

وتعتبر عمليات التسريح جزءا من هيكلة شاملة لإمبراطورية نشر المجلات، وهو ما شهدته أيضا العديد من المجلات العالمية والصحافية حول العالم، التي استطاعت النجاة أصلا من الإغلاق بسبب الأزمات المالية.

وتقابل المجلات صعوبات متزايدة منذ سنوات، فمنذ مارس 2019 أصبح 56 في المئة من المحتوى المنشور بواسطة المجلات لا يستند إلى إصدار مطبوع، بزيادة 6 في المئة عن عام 2018. وبمقارنة هذا بعام 2013، عندما كانت المطبوعات الورقية والرقمية تشكل 73 في المئة من إنتاج المجلة، يظهر هذا كيف تغيرت عادات النشر بوتيرة متسارعة.

من الصعب على مجلة أن تتفرد بإطلاق الصيحات في عالم يمكن لآخر صيحات الموضة أن تجوب فيه الكوكب بكبسة زر

وفي مسعى لخفض التكاليف، وضع مسؤولو “كوندي ناست إنترناشونال”، المجموعة القابضة التي تتولّى تحرير مجلة “فوغ باريس”، النسخة الفرنسية تحت الإدارة المباشرة لآنا وينتور رئيسة تحرير “فوغ” بطبعتها الأميركية، تماما كما حصل في البرازيل أو الهند أو إسبانيا.

وفي عالم يمكن لآخر صيحات الموضة أن تجوب فيه الكوكب بكبسة زرّ، بات من الصعب على مجلّة شهرية أن تتفرّد بإطلاق الصيحات. وقد أحدثت شبكات التواصل الاجتماعي “زوبعة” عصفت بـ“فوغ”، بحسب ما قال الخبير الإعلامي دوغلاس ماكايب من مجموعة الدراسة “إندرس أناليسيس”.

وكشف ماكايب “في السنوات الثمانين الأولى كانت السوق بين أيدي فوغ وحدها التي تحولت مرجعا في مجال الموضة. لكن اليوم مع انتشار الإنترنت، تعدّدت سبل الحصول على المعلومات… وبات الجميع يزعزع أسس فوغ”.

وهذا الوضع مشابه للكثير من المجلات العالمية، فلم تنج أشهر مجلة في العالم من الأزمة، إذ قررت مجلة “بلايبوي” وقف صدورها بالنسخة الورقية بعد 66 عاما على أول عدد لها وسرع ناشرها الانتقال إلى النسق الرقمي وكان عدد ربيع 2020 الورقي الأخير في الولايات المتحدة.

لذلك لم يعد غريبا أن تحتفي “فوغ باريس” من دون رئيسة تحرير بعد أن باتت تحت السطوة الأميركية، مع ما تحمله من تاريخ صيحات الموضة خصوصا بعد الانعتاق من ثقل الأعراف في الستينات.

وبالرغم من المعرض الكبير المقام في هذه المناسبة في قصر غالييرا وهو متحف الموضة العريق في باريس، أقرّت سيلفي ليكالييه القيّمة على معرض “فوغ باريس 1920 – 2020” الذي أرجئ سنة بسبب الجائحة “لم نكن نتصوّر بتاتا أن الأمر سينتهي بهذا الشكل عندما بدأنا بالعمل” على هذه الفعاليات.

وتميّزت النسخة الفرنسية من المجلّة بطابع أكثر تحرّرا وأكثر بوهيمية من نظيرتها النيويوركية. وهي كانت المرجع الذي رسم ملامح جزء كبير من الأسلوب الرائج في القرن الماضي.

ولم يسلم تاريخ المجلّة العريقة من الخصومة التي شابت العلاقات بين النسختين الأميركية والفرنسية (الملقّبة فروغ مع دمج كلمتي فوغ وفرنسية، وهي كلمة تعني ضفدع بالإنجليزية).

وأوضحت ليكالييه أن الخصومة في البداية “لم تكن بالكثيرة، لكنها ازدادت على مرّ الوقت”.

وفي العام 1929 طرحت فكرة “إعطاء هوية باريسية بالفعل” لمحتويات على صلة بالنخبة المثقّفة والأوساط الفنية في العاصمة الفرنسية. وفي الثلاثينات تحولت باريس حقل تجارب لإيجاد مصوّرين جدد “ما كانوا موجودين في نيويورك”.

Thumbnail

وعكفت “فوغ باريس” على الدفاع عن الأزياء الفرنسية الراقية في وجه الأميركيين مع ازدهار الأزياء الجاهزة الأميركية الصنع بعد الحرب العالمية الثانية.

ولفتت ليكالييه إلى أن “كلّ هذه الأوساط البوهيمية الباريسية هي على نقيض من المكتب النيويوركي. وتشهد تبادلات ولقاءات ومراسلات ومذكّرات على كلّ هذا التباين في طريقة قولبة المجلّة”. وأردفت أن “المجريات كانت شيّقة بالفعل، ففوغ باريس تطرح وجهات نظر جديدة، في حين تضبط نظيرتها الأميركية الوضع ببعض من المنطق وتضفي عليه مسائل تجارية”.

لكن مع التطوّرات الأخيرة “لم نعد ندري إلى أين نتّجه. وانتهت القصّة”، بحسب ليكالييه. وأوضحت “ليس من المستبعد أن تستمرّ لمئة عام بعد، لكنها ستكون بحجم مختلف”.

وتدرّ النسخة المطبوعة الجزء الأكبر من رقم الأعمال وما انفكّت مبيعات “فوغ باريس” تتراجع، من 98345 سنة 2017 إلى 81962 سنة 2020، بحسب موقع البيانات “إيه.سي.بي.إم”. وفي ظلّ هذه التطوّرات، أعطي أرفع منصب في الطبعة الفرنسية إلى أوجيني تروشو التي أدّت دورا رئيسيا في تطوير النسخة الإلكترونية من المجلّة.

ويرى خبراء الإعلام أن الكثير من قراء الصحف تأقلموا مع النموذج الرقمي واعتادوا متابعة الأخبار على مواقعها الإلكترونية أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أولئك الذين يدينون بالولاء لمجلاتهم المطبوعة سيحتاجون وقتا أطول للاعتياد على نسخ رقمية فقدت خصوصيتها وهويتها أمام باقي المنشورات على الإنترنت.

وتمتلك المجلات خصوصية تختلف عن الصحف إذ يتم نشر المجلة على فترات زمنية منتظمة، وغالبا ما يناقش العدد الواحد موضوعا معينا، وتحتوي على مزيج من المقالات والقصص، يأتي معظمها بصور فوتوغرافية أو غيرها من أشكال الفن، بينما معظم مواقع المجلات تنشر مقالات ومقاطع فيديو ومحتويات أخرى بنفس الطريقة التي تنشر بها باقي مواقع الإنترنت الأخرى؛ في بث مستمر.

وفي العالم العربي تضاءل عدد المجلات بشكل ملحوظ، وأغلب المجلات التي حافظت على إصدارها هي الثقافية التي تصدر بدعم مباشر من وزارات الثقافة في مختلف الدول العربية، وقد مرت بمرحلة من التغيرات طالت فترتها، كما أنها بعيدة من حيث الشكل والتبويب عما آلت إليه المطبوعات الحديثة، وأصبحت هذه المجلات الثقافية في مأزق حقيقي، فهي واقعة تحت ضغوط الاستمرارية من ناحية، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى أن تطور من خطابها وشكلها وأدواتها لتناسب عصرا أصبحت فيه الصحافة الثقافية بشكلها التقليدي لا يلبي طموحات قارئ العصر الرقمي.

Thumbnail
18