فن الإصغاء للأبناء.. مهارة تقوي جدار الثقة بين الأهل والطفل

الاستماع للآخرين، يعني أن نولي اهتماما كبيرا للمعاني المتضمّنة بين الكلمات، والرسائل التي تمررها ملامحهم، وحركة اليدين، ونظرة العين وحتى اتجاه الخطوط المتعرجة في الجبين. يتضمن فن الإصغاء، كما يصفه متخصصون، كيفية تطوير ملكة الصمت العميق في دواخلنا ليتسنى لنا في هدوء الاستماع إلى صوت الآخر ببطء وتمعن لما يكمن خلف الكلمات.
حاول العديد من الآباء استثمار موهبة الإصغاء للاطمئنان على صغارهم، خاصة بعد يوم دراسي طويل حيث يحلو لهم أن يطرحوا سؤالا روتينيا يكاد يكون متفقا عليه “كيف كان يومكم في المدرسة؟”، ليجيب الطفل بسرعة ومن دون تفكير أيضا؛ “بخير”! لكن هذه الـ”بخير” قد تخفي وراءها الكثير من الأحداث وربما المشاعر المكبوتة، فكيف السبيل يا ترى لفك هذه الألغاز وتشجيع الطفل على البوح بما يخفيه من دون التسبب في أي إحراج أو خوف أو ضرر نفسي؟
يعبّر الكثير من الأطفال عن رغبتهم في التحدث إلى والديهم بتفاصيل أكبر لكنهم يترددون في ذلك، بحجة أن الأهل لا يستمعون في العادة أو أنهم يبالغون في ردود أفعالهم أو أنهم ببساطة لا يريدون أن يستمعوا بسبب انشغالهم الدائم أو ليس لديهم الرغبة في ذلك.
وتؤكد الدكتورة لورا ماركام؛ أستاذة علم النفس السريري في جامعة كولومبيا الأميركية، على أننا يمكننا ببساطة أن نطور مهارة الاستماع إذا رغبنا في ذلك، وعندما نشعر بأن أحدهم يريد إخبارنا بشيء أو أن هناك كلاما ظاهرا على طرف لسانه، فالأفضل أن نترك كل شيء ونصغي له بانتباه، عندها سنشهد تغيرا في سلوك الطفل بعد حين وإن كان طفيفا.
وترى ماركام في كتابها “آباء مسالمون وأطفال سعداء؛ كيف نتوقف عن الصراخ ونبدأ الاتصال بأطفالنا”، أن بعض الآباء يستجيبون لشكوى أطفالهم أو لمجرد رغبتهم في الحديث بهدوء تام، ويشغلهم الفضول عما يكون قد حدث مع أبنائهم، في حين ينفجر آخرون بالصراخ في وجه الطفل لمجرد شعورهم بأن شيئا ما خطير قد يحدث لأبنائهم ويجب أن يتم التعامل معه بحزم، لذلك نادرا ما يلجأ الأبناء أيا كانت مرحلتهم العمرية، إلى مصارحة الأهل عما يعتريهم من مشاعر أو حتى لطلب المساعدة إذا ما وقعوا في مشكلة قد تستدعي تدخلا فوريا.
وتكمن المعضلة الرئيسية هنا، في أن بعض الآباء والأمهات يتصرفون بعدم مسؤولية وأنانية لمجرد وقوعهم تحت ضغوط نفسية، بسبب مشاكل الحياة اليومية، وربما يمتدّ جذر سلوكهم بعيدا إلى مرحلة طفولتهم؛ فالعديد من الآباء قد لا يكونون تلقوا رعاية مناسبة في طفولتهم ولم يعاملوا باحترام من قبل ذويهم فلم تقابل شكواهم إلا بالازدراء وعدم الاهتمام.
ويلجأ إلى هذا الأسلوب العديد من الآباء والمربين الذين لا يراعون حساسية المرحلة العمرية لأطفالهم، فيقابلونهم بالانزعاج أو عدم الاكتراث عندما يطلبون مجرد الاستماع إليهم، أما إذا تعرض الطفل إلى مشكلة أو ضرر ما فإن الاستجابة العنيفة لذلك هي أكثر ردود الفعل شيوعا.
نادرا ما يلجأ الأبناء إلى مصارحة الأهل عما يعتريهم من مشاعر أو طلب المساعدة إذا ما وقعوا في مشكلة قد تستدعي تدخلا
حيث يضع الآباء في العادة معايير عالية لما ينبغي أن يكون عليه سلوك أبنائهم، ولهذا فإن أي خرق حتى وإن كان بسيطا سيقلب الأمور رأسا على عقب ويضع الطفل في دائرة ضوء شديدة السطوع قد تعمي بصره وتسبب له الانزعاج والخوف، فلا يتلقى سوى التأنيب والتحقير، في حين تبقى مشاكله من دون حلول وبدلا عن ذلك، قد يتردد الطفل في المرة المقبلة ويحاول عدم الإفصاح عما يعتريه وهنا يبدو مكمن الخطر.
ويجهل بعض الآباء أن الطفل حتى وهو في سن مبكرة، يحيلها متخصصون إلى سن الثالثة، يمتلك من الوعي والشعور الكافيين للاستجابة إلى البيئة النفسية التي تحيط به، فإذا كانت هذه البيئة مشحونة بالتوتر وعدم الاتزان، فهذا من شأنه أن يلقي بظلاله القاتمة على طبيعة العلاقة بين الطرفين وربما يبدأ ببناء جدار شفيف من سوء التفاهم و فقدان الثقة بالآخر.
وترى لورا ماركام أن البعض من تجارب طفولتنا تؤثر سلبا في طريقة تعاملنا مع أطفالنا، خاصة إذا اعتمدنا طريقة تربية والدينا وربما بعض هفواتهم غير المقصودة، في التعامل مع أبنائنا. كما أن البعض يعتمد طريقة تربية والديه له على أنها كتاب مقدس بإمكانه أن يغرف من محتوياته كيف ومتى ما شاء، محاولا جعلها على مقاس المواقف التي يتعرض لها أبناؤه من دون أن يعي أن الزمن اختلف كثيرا، فضلا عن أن تجربة الأجيال القديمة في التربية لن تكون بالضرورة نموذجا يحتذى به في جميع الحالات والأوقات.
وفي كتابه “الطريق الأقل ارتيادا، سيكولوجية جديدة للمحبة”، يؤكد الطبيب النفسي الأميركي مورغان سكوت بيك؛ على أن العديد من أولياء الأمور يخفقون في بذل الجهد المطلوب للإصغاء بصورة حقيقية، وقد يخيّل للبعض أنهم يصغون بصورة حقيقية في حين أنهم يتظاهرون بذلك أو يصغون بصورة انتقائية في أحسن الأحوال، وهذا نوع من خداع الذات، يلجأون إليه للتغطية على كسلهم. أما الإصغاء الفعلي، فيتطلب التركيز الكامل؛ إذ لا يمكنك أن تصغي لأحد بصورة حقيقية وتقوم بفعل شيء آخر في الوقت ذاته، كما يجب تخصيص وقت الإصغاء ليكون مخصصا في مجمله للطفل وهذا يعني وضع كل شيء جانبا وكان قابلا للتأجيل، مهما بلغت أهميته.
ويؤكد متخصصون في علم نفس الطفولة، على أن الجهد المطلوب للتركيز على كلمات طفل في سن الخامسة مثلا، أكبر بكثير من الجهد المخصص للإصغاء لمحاضر متمرس إذ أن نمط الحديث لدى الطفل يكون غير منسجم، بحيث يندفع في الكلام للحظة، ويتوقف عنه، ثم يكرره، ما يجعل التركيز أمرا عسيرا. عموما، فإن الإصغاء للطفل في هذه السن هو عمل يتمحور حول المحبة واستعداد الأهل للقيام بذلك دليل على تقديرهم للطفل، الأمر الذي يجعله متحدثا جيدا يقول أشياء ذات قيمة أيضا تتخلل كلامه الذي يبدو في ظاهره مجرّد ثرثرة.