فنان بريطاني ينتقد الرجولة المفرطة والأدوار المرتبطة بها

يسخر الفنان البريطاني غرايسون بيري (1960) من الدور الرجولي، بوصفه بناء اجتماعيا وثقافيا مدمّرا للذكر والأنثى، ويحاول عبر أعماله وكتبه أن يفكك الهيمنة المرتبطة به، وأن يكشف خفاياه التي تفرضُ على “الرجل” أن يكون كما هو، مُنطلقا من وجهة نظر أدائية، ترى أننا “نتعلم” أدوارنا من الآخرين المشابهين لنا، ومُركزا على الرجولة بوصفها استعراضا ومهارة نكتسبها من آبائنا ومن فضاء الرياضة وفي فضاء العمل، ثم نتبناها لتُزرع عميقا داخلنا، مولّدة فينا القدرة على نفي الآخر المختلف وتهديده.
يقيم متحف العُملة في باريس معرضا بعنوان “الغرور، الهويّة، الجنسانيّة” للإضاءة على أعمال غرايسون بيري، الذي يتنوع نشاطه الفنيّ بين تأليف الكتب المصورة والنحت والنسيج وصناعة الخزف والتزيين، إلى جانب توظيفه لتاريخه وتجربته الشخصية كـ”متحول جنسيا” (من يرتدي ثياب النساء) (transvestite)، ليتحول إلى أناه الأخرى أو (كلير) كما يسمّيها، وذلك لفضح قسوة الدور الذكوري، ومناقشة معايير “الذوق” التي وضعها “الرجال” لرسم هويتهم وتمييز أنفسهم عن “النساء”.
تتنوع تجليات “الذوق الذكوري” في التاريخ سواء ضمن مكونات العمل الفنيّ أو في الحياة اليوميّة، كنظام الأزياء الذي يحدد كيفية “ظهور” الرجل بالبزة الرسميّة، التي تعكس كونه وظيفياً وقاسياً وقادراً على إنجاز المهمّات، التي هي جزء من زيّ موحد يحوّل الرجال – ولو مجازيا- إلى عمّال ومنتجين لا يمكن التمييز بينهم إلا حسب “وظيفتهم”، وهنا تبرز “كلير” الذات الأخرى للفنان، والتي تقدم شكلا جديدا من الذكورة وخصائصها، عبر الأثواب التي يصمّمها لها ويرتديها، ويرى بيري أن الهدف من هذه التصاميم، هو تركيز البصر على الثوب لا على ذاته، في محاولة لفصل الخصائص “الجماليّة” للثوب عن جسده والهوية الطبيعيّة التي يحملها، في إشارة إلى استحالة فعل ذلك وضرورة خلق الجدل حول “الشكل”، بسبب الخصائص الرمزيّة التي تحملها الثياب وعلاقتها بالهوّية الجنسية والدور الاجتماعي.
نشاهد في المعرض واحدة من أحدث أعمال بيري، والتي تعيدنا إلى بداية نشاطه الفني وعمله مع الخزف وتصميم الأواني والمزهريات، فعلى مزهريتين باسم “زوجين متطابقين” نرى مجموعة من الرسوم التي تجسّد الموقف البريطاني من البريكست، حيث الأولى تصور الرافضين له والثانية أولئك الذين صوّتوا للخروج من أوروبا، المثير للاهتمام، وما يحاول بيري إظهاره هو تماثل المزهريتين وتشابه الرسومات بينهما، إذ يوظف “التزيين” ليتلقط “الشكل” البريطاني، في محاولة لإبراز نقاط التشابه، في ذات الوقت مركزا على المزهرية بوصفها هشة وسهلة التكسير، وكأن “زلزال” بريكست قد يؤدي فعلا إلى تدمير الهوية البريطانية.
يحاول بيري أن يضيء على هويّة “الرجل” بوصفها تكوينا رمزيا خارجيّا يتم تبنّيها وبناؤها في ذات الوقت، فهي وليدة التكوين الماديّ للعالم من حولنا، الذي أصبح محكوما بالاستهلاك المُسيطر على جهودنا اللاواعية لـ”تعلّم” أدوارنا، والذي يبني رؤيتنا للعالم ومكانتنا ضمنه، وما يسعى له هو استبدال هذه الهويّة بأخرى، عبر بناء رموز ثقافيّة جديدة أو تعديل تلك الموجودة، كما نرى في الدراجة الناريّة التي صمّمها، والتي تستبدل صورة الذكر المهيمن القاسي بآخر مختلف، عبر تغيير خصائصها كمُنتَج، فألوانها زهرية وزرقاء، وتحوي في المقدمة مقعدا للأطفال، وفي الخلف صندوقا كبيرا لحفظ الأغراض بعد التسوّق، كذلك من السهل ركنها، كما أنها أقل استخداما للوقود، المثير للاهتمام. إن كل واحدة من هذه التعديلات، تعكس خاصيّة لـ”الذكورة الجديدة”، والتي تتضمن أبا يعتني بأطفاله ويشتري حاجيات المنزل بنفسه، ولا يلتزم بألوان محدّدة ويحافظ على البيئة، كما أن الدراجة الجديدة لا تعكس تفوق “الذكر” العضلي الذي يتجلى عادة في صعوبة ركنها.
يوظف تيري الغرض الفنيّ وموضوعه للتعليق على التاريخ وتمثيلاته، إذ يعمل على السجاد وتصاميمه لقراءة المتغيرات الآنية، فعوضا عن تصوير ملاحم أسطورية أو زخارف تتكرر وتتفرع، نرى حكايات من الحياة اليومية والصراع ضد الاستهلاك، والأوضاع الاقتصادية ذات التأثير على تركيب الفرد النفسي، كما في مجموعة سجادات بعنوان “غرور التفاصيل الصغيرة”، والتي نشاهد فيها قصة حياة الشخصية المتخيلة تيم راكويل ومعاناته كطفل، ثم كوالد أعزب من الطبقة الوسطى وما يتعرض له من إعلانات تستمر بغوايته، وتدفعه إلى بذل جهود مختلفة للتميّز عن أقرانه والاختلاف عنهم، وهنا تكمن خطورة التسليع والاستهلاك اللذين جعلا التميّز مرتبطا بشراء بضائع ومنتجات محددة، تَعدُ الفرد بالسعادة، لكنها في ذات الوقت وبسبب “الدور الذكوري الذي تخفيه” ترسم سلوك الفرد ونظرته لذاته.