فنانة مغربية تتبع خطى يدها بين دروب الشكل واللون والمادة

انتصار الغربي تحول الواقع إلى أحلام ملونة بين مفترق التجريد والتشخيص.
الأحد 2023/02/12
أشعر بحاجة وجودية للتعبير عما أحس به

رغم أهمية الجانب الأكاديمي في الفن فيما يمثله من ترسيخ للوعي، المطلوب في أي تجربة فنية تطمح إلى تجاوز الانفعال والآنية والسطحية، فإن هذا الجانب حول العديد من التجارب إلى أفعال آلية خالية من مغامرة المجهول والتحرر من القيود وابتكار المدهش التي يجب على كل فنان إيلاؤها الأهمية الأولى، وقد ينطبق هذا المسار التحرري ضد التصنيفات الجاهزة على تجربة الفنانة المغربية انتصار الغربي.

يعمل الفن عمل الحلم، معيدا تشكيل العالم بطرق مختلفة، يجعلنا ندرك الواقع من زوايا مغايرة، إنه بهذا المعنى طريقة لفهم الحياة، لأنه يستعير مفرداتها ويعيد تركيبها في صور مغايرة تجعلنا ندرك ما فاتنا، مؤولين الحلم/ الفن.

“التأويل”، إذن، هو المفتاح السري الذي يهتدي إليه الفنان، قبل المتلقي، لإخراج أعماله من صلب الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة، مطبقا عليها قوة المخيلة، أو بتعبير آخر، يجعلها تنبعث من الداخل: من أعماق الذات، “مما يعني، إذ يخبرنا مخائيل باختين متحدثا عن الفرويدية، أن كل ما يمس محتوى الفن يتعلل بأسباب السيكولوجية الفردية ويعكس لعبة القوى النفسية داخل الفرد”.

بوكس

الفن علاج ذاتي

إن الممارسة الفنية، بالتالي، بالإضافة لكونها تفاعلا مع الخارج (العالم)، فإنها نتاج حركة ذاتية داخلية فردية، أي أنها متولدة عما تراكم في وجدان وباطن الفرد المسمى فنانا، مما يجعلها في حالات معينة وسيلة فضلى للتشافي: العلاج بالفن.

من هذه النقط بالذات: الداخل، الحلم، العلاج، المخيلة، نستطيع سلك مسار الفنانة المغربية انتصار الغربي. إنه مسار فني حافل بالمراحل والوقفات والمحطات والمنعرجات، شيّدت دروبه المعددة ببحث متأن ومدرك لما تصبو إليه.

بدأت هذه الفنانة تعبيد طريقها في عالم الفني منذ سنوات التسعينات من القرن الماضي، بأولى الخطوات التشخيصية “العفوية”، التي استقصت سُبل التعبير عما تراه العين، دونما الارتهان إلى أكليشيهات التصوير المحاكي للواقع. إذ عمدت إلى اقتناص اللحظة في بريقها وضبابيتها، جاعلة اللوحة مكتفية بالمادة واللون، ومنهما يبرز الشكل بوصفه صورة تعبيرية.

وتقول الفنانة عن اشتغالها الجمالي “شعرت بحاجة وجودية للتعبير عما أحس به إزاء نفسي وإزاء العالم، كانت هذه الحاجة آتية من ماض بعيد، وتشتغل بصمت في داخلي، وقد وعيت منذ بدأت الاشتغال على المادة بأن عنصر اللون هو أحسن وسيلة للتعبير عن نفسي”.

وجعلت الغربي من الفن علاجا داخليا وخلاصا جسديا، محولة إياه إلى طاقة تعبيرية لا تنضب، طاقة فائضة عن اللزوم، بالتعبير الصوفي. فـ”العلاج يضفي على الفن مشروع تحويل الذات، بينما يعمل الفن على إضفاء الحماس على التشافي، حماس تبيان صيغة من صيغ الإشكالات الكبرى للإنسانية”، يخبرنا جان بيير كلايْن.

إن الإبداع الفني متولد عن التقاء الفرد بالمادة، التي تنتج عنها الأشكال وتجعلنا نستغور خبايا العالم الغامضة والمحيرة، بوصفها نتاجا ثقافيا. بينما يصدر الإبداع في التشافي والعلاج عن تقاطعات الذوات والداخل، بقدر ما ينتج بدوره الأشكال، فإنه يضعنا أمام كشف لأحاجي الفرد الجوانية، جاعلا إياها في تقابل بين ذاتيته والثقافة التي يحملها في دواخل اللاوعية واللاشعورية. مما يساهم في جعل الفنان – المعالَج منتجا لأعمال تأتي بوصفها “سيرا ذاتية”: حكايا الذات؛ من جهة و”محاكمة للواقع والعالم”: الثقافة والمجتمع، من جهة أخرى. مما يجعل العلاج بالفن “بنائيا”، ومولدا ومسائلا ومقوضا للواقع وللنفس.

وتنطلق أعمال الغربي من هذه النقطة، دونما أي اعتبار مسبق للشكل وللإطار، تاركة الحرية وفاسحة المجال الأرحب للمخيلة كأننا بها داخل حلم لا قواعد فيه، متتبعة خطى يدها وهي تسوقها إلى دروب الشكل واللون والمادة، سواء في المستوى التصويري أو الخام أو المجرد، “كيفما كان الشكل أو الإطار المختار فإن البحث الذي يحفزني هو تحويل القماش إلى لوحة فنية ينصت إليها ويحس بها كل واحد منا” تقول الفنانة.

المرأة وتحدي المكرس

اللوحة مكتفية بالمادة واللون
اللوحة مكتفية بالمادة واللون

تعمل الغربي، إذن، على لوحاتها الصباغية من منطلق عفوي ومتحرر من كل القيود المسبقة، وسندها في ذلك كونها لم تأتِ إلى هذا العالم من أي خلفية أكاديمية تعمل عمل الأسوار المكبلة لحرية المخيلة. فيد الفنانة مدربة على تشكيل الداخل والأعماق، كأنها تضيء الظلمة باللون الموضع على القماش، الذي تحوّله إلى مشاهد تصويرية تنتقل من التشخيصي إلى الخام brut وصولا إلى المجرد، ومن ثم شبه – التشخيصي semi-figuratif.

تندرج كل هذه المحطات في مسار بلغ العقود الثلاثة، مما يجعلنا نطلق عليه توصيف “الخبرة” أو “التجربة” الجمالية، لأنه لم يرتهن إلى الأسلوب الوحيد ولم يتقافز بين كثر الأساليب، بل شرع لنفسه منعطفات، وانقطاعات، ساهمت في تطوير التقنيات المستعملة والرؤى المتطرق إليها. موطن كل ذلك، اندفاع الفنانة نحو التعبير عما يخالجها ويسكن ذاتها في علاقتها بالثقافة التي تحملها والتي تحاول تأطير نظرتها للواقع.

اللون هو أحسن وسيلة للتعبير عن النفس
اللون هو أحسن وسيلة للتعبير عن النفس

فإن وقفنا إزاء الأعمال الخامة، سنجد في صلب اهتمامها المرأة. فالفنانة بقدر ما تعمل على لوحاتها بشكل خام وعفوي، معبرة عما يستوطن ذاتها، فهي -تلقائيا- تقدّم تصورها الذاتي للعالم البراني: المجتمع وثقافته. غير أنها تحوّل كل تلك الأحكام والأغلال المطبقة على المرأة إلى فضاءات زاهية، وهو نوع من التحدي للمكرس والمنطبع، واضعة الجسد الأنثوي -والجزء المفكر فيه: الرأس- داخل مساحات صباغية بهية: حدائق وأعراس وأفراح، مستقية مفرداها من عوالم النساء من نقوش الحناء وآلات الطرب والعزف واللباس وغيرها.

التعبير الخام

يشتغل الفنان الخام على منجزاته، مثلما يعمل الفنانون الذاتانيون (les subjectivistes) على منتوجاتهم الفنية والثقافية، إذ يقاربون الأعمال بشكل جمالي يمنح الإحساس والشعور بضرر الفئات الأيديولوجية من إشكال الهوية والانتماء الثقافي والوطني والاجتماعي. غير أن الاختلاف يتضح في مستوى آليات الاشتغال، فالفنان الخام يعتمد على التسطيح والتبسيط والتعبير الغالب على الجماعات، وذلك لأنه يجد نفسه منصهرا ضمن الجماعة، لا منعزلا عنها وناظرا إليها بنظرة برانية، تعزل أفرادها عن بعضهم البعض.

وانتقلت الغربي من الموضوع التشخيصي الفردي إلى التعبير الخام حيث تنصهر ذات الفنانة في ذات الجماعة: النساء، جاعلة من نفسها صوتا يتحدث بأصواتهن؛ أو بتعبير أدق عين تعكس أفراحهن وأطراحهن. لكن في انتصار للفرح الزاهي والمزهر (ويا لها من صدفة، الانتصار حليف الفنانة دائما).

ومن ثم، وبعد انقطاع لسنوات، سوف تستثمر الفنانة عملية التبسيط والتسطيح التي أتاحها لها الفن الخام، داخل اشتغال عماده تجريد الفضاء التصويري من كل تشخيصية، كأن الفنانة تحاول التخلص من ماض ما لصالح الآتي، تلغي عن فضاءاتها كل الصور المتروكة في الذاكرة، لتتيح للمخيلة إعادة تشييد نفسها عبر عملية محو بالملء.. محو الوجوه والشخوص بالألوان والأشكال المجردة.

الشبه تجريدي

انتصار للفرح الزاهي والمزهر
انتصار للفرح الزاهي والمزهر

إنه نوع من التطهير، بالمعنى الأرسطي، أليس الفن علاجا وتطهيرا للذات؟ متكئة على ما يمنحه لها اللعب من كل إمكانيات التجريب. إن التجربة (والخبرة) لا تكتمل دون تجريب، وهذا الأخير نوع من اللعب لكن ضمن قواعد محددة. وكل ذلك في علاقة وطيدة بالحلم كما بدأنا الحديث. أو كما يخبرنا الفيلسوف جون دوي “أما النظرية التي تقول إن الفن لعب، فهي شبيهة بالنظرية التي تقول إنه حلم، ولكنها تقترب أكثر (تلك النظرية) من واقعية الخبرة الجمالية”.

يجعلنا اللعب نتحرر من كل ضرورة خارجية، يجعلنا ننتقل بين التلقائية والنظام، ونتنصل من ضغوط الواقع. أما داخل العمل الفني فهي تحرر الذات من الموضوع، وجعل المنجز غارقا في التأويل. واتصالا بموضع العلاج، فإن التجريد بوصفه لعبا جادا باللون والشكل، فهو يحرر الذات من إشكالية المواجهة، متيحا إمكانية المحو عبر ملء الفضاء (الذاكرة) بأشكال لامرئية تعمل على تجيد الفكر وتظهير النفس.

هذه التجارب الفنية، التي كوّنت لدى الفنانة خبرة جمالية على طول مسار زاخر، جعلتها تعرج إلى مسلك جمالي مغاير، أسّه التجريد المشخص والتشخيص المجرد، أو بقول آخر تقف الغربي بين مفترق التجريد والتشخيص، أي ما نسميه بـ”الشبه – تجريدي” أو الشبه تشخيصي. حيث تنبعث صور ووجوه وشخوص من فوضى اللون وتجريد الفضاء، كأنها تتراقص في غنائية المكان المجرد.

وخَلُصت الفنانة لهذا المنعطف، بعد تصالح ذاتي وجسدي، كاسرة كل الجدران ومحطمة كل الحدود لصالح تعبير غير مقيد وغير مكبل بأي أفكار مسبقة أو عراقيل مانعة.. همها قول دواخلها والإفصاح عن باطنها وإظهار ما يخالجها. لهذا تتبع التلقائية والعفوية في التعبير مانحة للوحتها كامل الحرية.

انتصار الغربي جعلت من الفن ما نعتبره علاجا داخليا وخلاصا جسديا محولة إياه إلى طاقة تعبيرية لا تنضب
انتصار الغربي جعلت من الفن ما نعتبره علاجا داخليا وخلاصا جسديا محولة إياه إلى طاقة تعبيرية لا تنضب

12