فقراء يأكلون الزرافات

تسابق اليساريون والإسلاميون في سلفية النظر إلى الفقر والركون إلى عدم محاولة تغييره فرديا. فكّر الإسلاميون الفقراء في الجنة، وفكر اليساريون الفقراء في الاشتراكية والمرحلة الشيوعية.
السبت 2020/05/30
ظللنا فقراء بجوارب ولا نأكل الزرافات

فاجأني تيم حين قال: بابا ثمة الكثير من الفقراء في بلادنا. ويجب أن نساعدهم، هكذا قالت سيدتي في الروضة. قلت؛ نعم يوجد الكثير من الفقراء ولكن كيف نساعدهم، وكيف تعرف أنهم فقراء.

قال، الفقراء ليس لديهم جوارب. يسكنون في الغابة يصطادون الزرافات لأكلها، وأحيانا يصطادون حيوانات أخرى يستعملون جلودها كملابس. يجب أن نساعدهم بأن نشتري لهم الأكل والملابس والأدوات المدرسية.

وافقته على مساعدة الفقراء. فرحتُ لا فقط لأن تيم يفكر في الفقراء، بل لأنه لن يكون “اشتراكيا” مثل والده وأعمامه وأصدقاء والده وأصدقاء أعمامه وجل ما عرفهم. هؤلاء الذين كبروا وترعرعوا على أن الفقر حقيقة من صنع الدولة، فكرهوا الدولة واستطابوا الفقر دون سعي للخروج منه ولو بالمحاولة. هؤلاء الذين فروا من الفقر إلى كتب فكرية متكلسة تقول إن الفقر صنيعة رأسمالية إمبريالية راسخة، لن تتغير إلا بإسقاط الرأسمالية والإمبريالية وامتلاك وسائل الإنتاج. شيء من قدريّة كسولة تشبه ما يراه الإسلاميون. الفقر قدر من الله. “الناس كلهم مشتاقون إلى الجنة، والجنة مشتاقة إلى الفقراء". تسابق اليساريون والإسلاميون في سلفية النظر إلى الفقر والركون إلى عدم محاولة تغييره فرديا. فكّر الإسلاميون الفقراء في الجنة، وفكر اليساريون الفقراء في الاشتراكية والمرحلة الشيوعية.

ارتاح اليساريون إلى الفقر، ووجدوه في صفحات كتب قديمة، لعنة أكبر من محاولة لم تبدأ.

وجدوه في كلمات أحمد فؤاد نجم (شاعر الفقراء) وأغاني الشيخ إمام “همّا مين واحنا مين”. هربوا من مظاهر الفقر إلى عوامل بعيدة عسيرة على التغيير إلا في إطار جماعي غوغائي لن يتحقق. كان الخروج من الفقر يحتاج التفكير في طبيعة المجتمع وفي المراحل التاريخية، وفي كون أن الرأسمالية تؤدي دائما إلى الاحتكارات وتقود الناس إلى الفقر. لم يكن الفقر عدوا، أو رجلا يقتل، بل كان العدو الحقيقي هو الرأسمالية. كان علينا، أن ننتظر المرحلة الشيوعية “حين تُلغى الطبقات وينتهي المجتمع الطبقي”، لكي يزول الفقر وما يترتب عليه. وظللنا فقراء سعداء بفقرنا المفروض علينا.

تذكرتُ المظاهرات والمسيرات ضد الرأسمالية والإمبريالية، وبيانات التنديد بسياسات النهب والتجويع والتفقير ومناويل التنمية الحقيرة، ورشق أعوان الأمن بالحجارة سعيا لقلع الفقر من جذوره، ومع ذلك ظللنا فقراء بجوارب ولا نأكل الزرافات.

أوقفت سيل الخواطر التي انتابتني فوجدت تيم مازال يحدث أمه عن طرق مساعدة الفقراء. لم أبدد تصوراته بأننا فقراء، ولم أسأل عن مفهومه للفقر، فالطفل مازال طفلا يتصور أن والديه يملكان البنك الذي يسحبان الأموال من صرافه الآلي. خيّرت ألاّ أقول إن والده فقير وإن لم يأكل يوما زرافة.

24