فضيحة أخلاقية في ليما تكشف خفايا قمع السلطة

لطالما ساهمت الرواية بتشكيل الوعي بالتاريخ وأحداثه، فهي الحكايات الموازية التي تختلف عن الرسميّة لكونها إنسانيّة من جهة، وتفكك تقنيات السلطة التي تنتج تاريخها الخاص من جهة أخرى، إلى جانب قدرة الرواية على كشف الرغبات الدفينة والانحرافات التي تحاربها السلطة لتكتب تاريخا طبيعيا ومتجانسا يتشابه فيه الأفراد سواء في الفضاء العام أو الخاص الحميميّ.
السبت 2017/11/18
علاقات مشبوهة بين الجميع (لوحة للفنانة إيمان خماجة)

خضعت البيرو في التسعينات من القرن الماضي لنظام سياسي استبدادي يتمثل في شخص فوجيموري ونظام الاستخبارات التابع له، إذ هيمن الفساد والقمع والرعب عن شوارع المدن، كما خضعت البلاد لظروف استثنائية تمثلت في حظر التجول والهجمات المسلحة التي كانت تقوم بها القوات الشيوعيّة، إلى جانب عمليات الاختطاف والقتل العشوائي التي نشرت الرعب في البلاد، في هذا السياق تدور أحداث “الزوايا الخمس، ليما”، الرواية الجديدة للروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا، التي صدرت ترجمتها الفرنسيّة هذا العام عن دار غاليمار، إذ نقرأ عن التغيرات التي مرت بها مدينة ليما، وخصوصاً تقاطع الشوارع الخمسة كما يشير العنوان، إذ تحولت المدينة من تجمع للفنانين والشعراء والبوهيمين إلى ساحة للقتال والعنف وتصفية الحسابات.

الفضيحة والقمع

تبدأ الرواية بعلاقة حميمية مثليّة تجمع صديقتين مقربتين تنتميان إلى الطبقة البرجوازيّة؛ فخوفاً من كسر حظر التجول المفروض والرعب الليلي الذي تشهده المدينة تبيت ماريسا عند صديقتها شابيلا، لينتهي الأمر بالاثنتين في تجربة إيروتيكيّة يصفها يوسا بأنها “بعيدة عن الابتذال البورنوغرافي”، من هذا التوتر الحميمي ينطلق يوسا ليحدثنا عن الفضيحة التي تلمّ بالمهندس أنريكو كاردينس زوج ماريسا، وتعرضه للابتزاز من قبل رولاندو غارو رئيس تحرير صحيفة مختصة بالفضائح، وإثر رفض أنريكو الانصياع لابتزاز غارو، ينشر الأخير صورا لأنريكو في حفلة عربدة مدبّرة للإيقاع به، فانتشار الصور يدمّر سمعة أنريكو ويجعله حديث البلاد ونشرات الأخبار.

الحدث الجنسي السابق يشكّل محركا للأحداث العلنيّة، نحن أمام فضيحة يحضر بطلها عارياً ضمن وضعيات تخلخل مكانته في الفضاء العام ولا بد من إنهائها، في حين هناك الجنس الغائب، ذلك الحبيس في النفوس، والذي يتمثل بجوليتا التي تعشق رئيس التحرير رولاندو غارو دون أن يعلم الأخير بذلك، وهذا ما يدفعها إلى المخاطرة بحياتها لاكتشاف قاتله والنهاية الوحشية التي تعرض لها، فغياب الجنس هنا دافع إلى التضحية بالذات، وإثر كشفها الفاعل تتحول إلى بطل وطنيّ عبر فضحها السلطة التي ولدت الجنس “المنحرف” بين ماريسا وشابيلا، وكأن الرواية توجه انتقاداً لتقنيات القمع التي تقف بوجه رغبات الجسد وتحبسها في الظلام، وإلى السلطة التي تدافع عن البرجوازيّة التي تمارس فانتازماتها سرا ولا يجوز أن تظهر للعلن لكونها تشوه وجه السلطة التي تتحالف معها.

الضحية العقيم

الشكل الآخر للعلاقات الجسدية يتمثل في الغياب الكلي للفعل الجسدي، فخوان بينتا الشاعر والبوهيمي المؤدي الذي دمر غارو مسيرته المهنيّة وتسبب في موت زوجته، ينتهي به الأمر في الشوارع فقيراً تقوده قطته الأليفة مهووسا بغارو، إذ يقوم كل يوم بكتابة رسالة يوجه فيها الاتهامات إلى غارو ويرسلها إلى وسائل الإعلام المختلفة، هو ضحية لإحدى وسائل السلطة المتمثلة في الصحافة الفضائحيّة، التي لم تكتف بتدمير حياته، بل تشعره بالشفقة على ذاته لكونه لم يتمكن من ممارسة “الانحرافات” الجنسيّة التي شاهدها في صور المهندس العاري، فزوجته كانت ترفض ذلك.

الرواية توجه انتقادا لتقنيات القمع التي تقف بوجه رغبات الجسد وتحبسها في الظلام، وإلى السلطة التي تدافع عن البرجوازية

الفضيحة التي مست البرجوازية تشكل فانتازما لأولئك المقهورين وضحايا الممارسات السلطويّة التي تتركهم أشبه بالمشلولين والمهووسين بالسلطة في محاولات بائسة لزعزعتها، ليتحول شخوص سلطة المال إلى ما يشبه الكائن “الفيتشي” المحميّ دوما، الذي يباح له ما لا يباح لغيره، وبالرغم من أن الفضيحة ليست إلا مؤامرة للإيقاع بأنريكو إلا أننا نكتشف في النهاية أن مكانته لم تتغير بالرغم من تغير النظام الحاكم ونسيان الفضيحة وبراءته من اتهامات القتل.

يصف لنا يوسا أيضاً كيف تم الإيقاع بأنريكو وكيف اقتيد إلى الحفلة السرية ليتم التقاط صوره، وكيف تمت صناعة الفضيحة بدقة وتنظيم، لينقلنا بعدها إلى جانب آخر من حياة المهندس البرجوازيّ، إذ تخطط زوجته وصديقتها اللتان تمثلان الشخصية النمطية للمرأة المدللة والغنية، رحلة إلى ميامي في أميركا، حيث يقوم الثلاثة بتحقيق فانتزما أنريكو الجنسية، وكأن هذا النسق من العلاقات الجنسية يحضر فقط خارج جغرافيات السلطة، هناك حيث الحرية، إذ لا ابتزاز ولا خوف من الفضيحة، هذا الافتراض يعني أن الحرية الجنسية الفانتازميّة تنتمي فقط إلى أولئك القادرين على مغادرة جغرافيات الهيمنة، وإعادة تكوين شكل جديد من العلاقات الجسديّة، وخصوصاً أن شابيلا هي زوجة المحامي لوسيانو صديق أنريكو المقرب الذي وقف إلى جانبه طوال الوقت.

في نهاية الرواية وفي ظل حالة الخوف والترقب التي تسكن أنريكو من أن يكون لوسيانو قد اكتشف ما فعله في ميامي مع ماريسا وشابيلا، يفاجئ لوسيانو الجميع بقوله إنه أصبح مستعداً للسفر إلى ميامي ليعيش هو أيضاً مغامرته الفانتازميّة، هناك في الخارج بعيداً عن السلطة، حيث الجسد محكوم بالأهواء والاندفاعات ولا يخضع لتقنيات السلطة وقوانينها الاجتماعيّة.

يعتمد يوسا في الرواية على خصائص قصص المحققين واكتشاف الجرائم، حيث يخلق لنا التشويق لمعرفة القاتل من جهة، والتشويق المرتبط بمستقبل العلاقة الجسدية بين ماريسا وشابيلا من جهة أخرى، والشخصيات ذاتها تعي هذا التشويق، فبعد الفضيحة، نرى الجميع متوتراً والأعصاب مشدودة بانتظار الخلاص، أشبه بلحظات ما قبل الممارسة الجسدية حيث الترقب والانتظار في سبيل الخلاص، وكشف كل شيء للعلن.

15